رواية عن أحداث تاريخية حقيقية.

 

دخول المسيح إلى أورشليم

 

كان يسوع يطوف في الجليل على قدميه في كل القرى والمدن. علم في المجامع ، وكرز في الساحات، وشفى المرضى، وطرد الأرواح الشريرة، وحذر الناس من يوم الدين المقبل عليهم. نادى الجميع:

 

"توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات"

(مرقس:1: 15).

 

وبعدما أكمل خدمته في موطن رأسه، اتجه نحو أورشليم، ومشى مع تلاميذه من وادي الأردن الأخضر، وصعد في اليوم الثالث من رحلته، من أريحا عبر صحراء اليهودية، نحو أورشليم المرتفعة، التي تبدو كتاج على رؤوس الجبال.

 

إقامة لعازر

مرّ يسوع في طريقه لحضور عيد الفصح في بيت عنيا الواقع في المنحدر الشرقي من جبل الزيتون. وعاشت هناك أختان مع أخيهما، كعائلة مؤمنة بالمسيح، التي استقبلت سابقا المسيح وتلاميذه، واضافوهم.

 

خيّم هذه المرة الحزن على هذا البيت، بسبب موت لعازر الذي توفي، ودفن منذ أربعة أيام من وصول المسيح. فامتلأ البيت بالمعزين، الذين أرادوا مشاركة الأختين في أحزانهما وتعزيتهما.

 

عندما سمعت مرثا، الأخت العملية من الأختين، أن يسوع اقترب من قريتهم، أسرعت نحوه، وواجهته بالدموع: "يا سيد، لو كنت هاهنا لم يمت أخي" (يوحنا11: 21). كانت تؤمن بأن المسيح قادر على إبراء أخيها، وشفاء جميع الأمراض. وتأسفت لأنه لم يأت قبل موته، رغم أنها أرسلت تخبره عن مرض أخيها المزمن.

 

أمّا يسوع فقال لها: "سيقوم أخوك" (يوحنا 11 : 23 ). فأجابته مرثا على الفور:" أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة، في اليوم الأخير" (يوحنا 11 : 24 ).

 

أما يسوع فأراد أن يرشدها إلى إيمان أعمق، وأعلن لها سرا من أسرار حياته وقيامته، ووضّح لها، أن من يؤمن به، يشترك في حياته الأبدية، ويساهم في غلبه للموت. فأمّنها بالآية الذهبية:

 

"أنا هو القيامة والحياة. من آمن بي، ولو مات، فسيحيا، وكل مَن كان حيا،

وأمن بي، فلن يموت إلى الأبد. أ تومنين بهذا؟"

(يوحنا 11 : 25 - 26 ).

 

وهنا تجاسرت مرثا معترفة اعترافها العظيم، شعارا لكل النسوة التابعات للمسيح:

 

"نعم يا سيد، أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله، الآتي إلى العالم".

(يوحنا11 :27 ).

 

كان هذا الاعتراف من قبل مرثا جرأة، لأن اليهود المتدينين حينها يرجمون كل من يقول أنّ لله إبنا.

 

أما مرثا فكانت تشهد بأن يسوع هو المسيح النتظر، الذي يترقبه اليهود، واعترفت فوق ذلك أن يسوع هو ابن الله الروحي، الآتي إلى دنيانا، ليبني ملكوت ابيه السماوي. فأمنت مرثا بتجسد روح الله في المسيح. لم تفهم بعد إمكانية إقامة أخيها المتوفى. إنما آمنت بمعطي الحياة نفسه، التي سمته ابن روحي لله، الذي استطاع أن يحقق الغير المستطاع.

 

عندما وصل يسوع معها ومع أختها مريم إلى المغارة، التي دفن فيها لعازر بصحبة الجمع، فرأوا حجرا كبيرا على باب القبر. فطلب يسوع من الجموع المحتشدة:" ارفعوا الحجر " (يوحنا 11: 39)

 

عندئذ اعترضت مرثا، وقالت برعب: "يا سيد كلا، لأن الجثة قد أنتنت ولها أربعة أيام". أما يسوع فنظر إليها وقال: "ألم أقل لك : إن آمنت ترين مجد الله"( يوحنا 11 : 40). وبعدما دحرج الرجال المحتشدون الحجر عن القبر، بدأ يسوع يصلي أمام الجميع بصوت واضح:"أيها الآب، أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي. ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت: ليؤمنوا أنك أرسلتني". (يوحنا  11 : 41 - 42 ).

 

وبعدما كان ابن مريم يصلي هذه الكلمات بصوت واضح، "صرخ  بصوت  عظيم:" لعازر،  هلمّ خارجا"( يوحنا 11: 43).

 

اخترق أمر ابن الله الصخور، وغلب قدرة الموت، فأحيا الميت، وحملته ملائكة غير منظورة من قبره، لأنه كان ملفوفا بأربطة الكفن، حتى رأسه كان مغطى بمنديل.

 

أما الجماهير فنظرت بدهشة، واستغراب، ولم يعرفوا ماذا يقولون؟ فأمرهم يسوع قائلاً: "حلوه ودعوه يذهب". (يوحنا 11 : 44 ). عندئذٍ ارتعب الجميع، وشعروا بقدرة يسوع الإلهية، والبعض منهم آمن، بأنّ الله قد أرسل المسيح إليهم.

 

المؤامرة لقتل يسوع

 

جوبهت انتصار محبة الله وظفر حياته بردة فعل من قبل بغضة الظلمة. وصل الخبر عن قيامة لعازر إلى مسمع رؤساء الكهنة في القدس، وأدركوا البينات المدهشة ليسوع، وحسدوه لأجل سلطانه الروحي، فخافوا أن يتركهم الشعب ويجري معه، فيحدث انشقاق، وحركة بدع، وهم يفقدون قيمتهم وكرامتهم عند الجماهير.

 

أنبأ رئيس الكهنة قيافا، وهو وسيط روح الشيطان، عن ضرورة موت يسوع النيابي من أجل سلامة الأمة. إنما حرّف معنى العبارة ولم يقصد المصالحة مع الله، بل اعتبر موت يسوع ضروريا، لتأمين الراحة السياسية لأجل الأمة (يوحنا11: 46-54).

 

تظهر أكاذيب الشيطان دائما قوية، ما دامت تتضمن بعض الحق. إنما تبقى مجرّد أكاذيب حتى ولو كانت مقنعة للعامة.

 

أما أهل أوروشليم فتدفقوا بأعداد كبيرة إلى بيت عنيا، لمشاهدة لعازر الحي، بعد أن كان جثة نتنة في قبره لأربعة أيام. أما الآن فعاش بينهم حيا وسالما. فتعجبوا واندهشوا من يسوع، وازدادت سمعته، حتى قرّر رؤساء الكهنة أن لا يميتوا يسوع رئيس الحياة وحده، بل لعازر أيضا، ليبرهنوا أنّ هذا المقام من بين الأموات يمكنهم أن يميتوه، ويلقوه في القبر، متى أرادوا ذلك (يوحنا 11: 53 ؛ 12 : 10 ).

 

منذ ذلك الوقت لم يدخل يسوع علانية إلى العاصمة، بل بات في مدينة أفرايم الصغيرة، الواقعة على حدود الصحراء. كان يسوع مزمعا، أن يقرر ساعة موته كحمل الله، حسب إرادته الخاصة في انسجام مع مشيئة أبيه السماوي.

 

مسحة يسوع للموت

 

ترك يسوع مع تلاميذه ملجأه، وقام بزيارة لعازر المقام من الأموات وأختيه، ليقوى إيمانهم، ويرشدهم روحيا، وسط الدهشة من قبل الوافدين لرؤية الميت الحي.

 

حضّرت الأختان وليمة كبيرة ليسوع وتلاميذه الإثنى عشر، مع العلم أن مرثا قامت بِمعظم الخدمات اللازمة. أمّا مريم، الأخت الموهوبة بالشعور الباطني، فأخذت قارورة من طيب "ناردين"، غالي الثمن، وكسرتها، ورشتها على قدمي يسوع، ومسحتها بشعرها.

 

ربما كانت تقتني هذا الطيب الغالي الثمن، لأجل كفنها الخاص، أما الآن فسكبت كنزها على قدميه، رمزا لمحبتها وشكرها وسجودها لابن مريم. امتلأ البيت من رائحة الطيب الطيّب، واندهش الحاضرون.

 

أما يهوذا الاسخريوطي الخائن فاشمأز لأجل إتلاف هذا الكنز، وتمتم:" لماذا لم يبع هذا الطيب بثلاث مئة دينار ويعطى للفقراء" ( يوحنا 11 : 4 - 6 ). فأجابه الممسوح بطيب ناردين جوابا حاسما، الذي يبدد الأحلام عن "فردوس العمال" أو "رفاهية الرأسمالية" وقال:" اتركوها. لماذا تزعجونها. قد عملت بي عملا حسنا، لأن الفقراء معكم في كل حين، ومتى أردتم تقدرون أن تعملوا بهم خيرا. وأما أنا فلست معكم في كل حين. عملت ما عندها قد سبقت ودهنت جسدي بالطيب لتكفيني. الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضا بما فعلته هذه تذكيرا لها" (مرقس 14 : 6 - 9). سمح المسيح بتقديم عمل شكرها وأصبحت مريم قدوة لكل المضحين لتكريم المسيح عبر القرون.

  

التمهيد لدخول المسيح أورشليم.

 

وفي اليوم الثاني أخذ يسوع وتلاميذه أن يتجهوا نحو العاصمة أورشليم، رغم الخطر المتربص بهم، وكانت أورشليم ليسوع مثل تنين فاتح فاه ليبتلعه. أما يسوع فتقدم دون إبطاء في طريقه، الذي أراه أبوه.

 

كان ابن مريم قد تنبأ خمس مرات أثناء صعوده إلى القدس بوضوح عن آلامه، وموته، وقيامته، التي انتظرته في القدس (متى 16: 21-23؛ 17: 13؛ 22-23؛ 20: 17-19؛ 26: 1-14 ). لم يكن يسوع خيّالـيا، بل واقعيا.

 

لماذا لم يهرب، بعدما عرف ما سوف ينتظره في القدس بالتفصيل؟ كل إنسان طبيعي يهرب، عندما يداهمه الخطر أو يدركه، ولكن يسوع أكمل الطريق، لأنه علم أن هناك خطة إلهية مكتوبة عليه، لكي يصالح الله مع العالم الشرير. ولا توجد طريقة أخرى، لخلاص المذنبين والأثمة، إلا بواسطة آلامه، وموته، وقيامته نيابة عنهم. لم يهاجر، ولم يهرب يسوع! فتقدم عمدا إلى فم الموت المفتوح له.

 

ظهرت بصيرة يسوع النبوية أيضا، بما أنه أبصر الآتان وابنها الجحش مربوطة إلى شجرة. كان مزمعا أن يمتطيها، ويدخل بها إلى العاصمة. فاختار تلميذين لينطلقا، ويحلا الآتان و الجحش، وأفهمهما إن احتجّ صاحب الآتان، فيقولان له،   أنّ الرب محتاج لذلك، وأنه ليرجعها حالما استكمل استخدمهما (متى 21: 1-3؛مرقس11: 3).

 

أما اسم التلميذين لم يذكر في سبيل أمنهما. وأطاعا أمر يسوع، وفعلا بما قال لهما. عندئذ اختبرا كيف تحققت نبوة يسوع بدقة وبسرعة. فتأملا في طريقهما أن هذا الدخول إلى القدس هو دخول غريب.  ولا بد أنهما تذكرا نبوة زكريا الشهيرة، حيث نقرأ: "ابتهجي جدا يا ابنة صهيون. اهتفي يا ابنة أورشليم. هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنظور ووديع، وراكب على حمار وجحش ابن آتان"(زكريا9: 9).

 

أدرك التلميذان أثناء حلّ قيد الآتان وجحشها أن أمرا عظيما سيحدث في تاريخ أمتها، وأنَّ حدثا متنبَأ عنه سيحلّ.

 

الملك الموعود الإلهي يأتي الآن. الأنبياء انتظرت هذه اللحظة، أما الملك الجديد فلم يأت بجيش جرار، ولا بمساعدة المال لإنعاش الاقتصاد، بل عادلا وديعا ومنتصرا في روح الله.

 

لم يكن الحاكم الجديد غنيا، ولم يكن له جواد، ولا إبل، حتى ولا حمار. هو فقير ويكون مضطرّا أن يستعين بالآتان لدخوله القدس من أحد أصحابه.

 

كان ينبغي على التلميذين أن يقولا لصاحب الآتان وجحشها، الرب محتاج إليهما. إنّّ هذه الجملة مخالفة لذاتها. إنها مستحيلة لأن الرب القدير الذي خلق كل شيء، ويملك كل شيء، ويضبط كل شيء، إنه غير محتاج. ولكن أصبح في المسيح إنسانا، وأكثر من ذلك، وُلد في إسطبل، وسار على قدميه من قرية إلى قرية، ليحقق حلول ملكوت الله، بكرازة إنجيله. فالعظيم أصبح فقيرا لنصبح نحن الفقراء أغنياء روحيا في محبته.

 

لذلك تأمرنا النبوة: ابتهجي جدا، واهتفي أيتها الأمة المستعمرة المسكينة. اقبلي ملكك بالهتاف لأن الرب يأتي شخصيا إليك، كما قال النبي اشعيا سابقا:

 

قومي استنيري لأنه قد جاء نورك، ومجد الرب أشرق عليك، لأن ها هي الظلمة تغطي الأرض، والظلام الدامس الأمم.

أما عليك فيشرق الرب، ومجده عليك يُرى

(اشعيا 60: 1-2 ).

 

أصبح الحماران وراء التلميذين السبب لتأملاتهما. ربما قال الواحد للآخر، إن احتاج الرب إلى الأتان وجحشها فكم بالأحرى يحتاج إلينا. ليتنا نتوب، ونقدّم ذواتنا لمخلص البشر، ونعمل تماما ما يأمره لنا، ونضع أنفسنا تحت تصرفه.

 

عندما رجع التلميذان إلى يسوع والتلاميذ الآخرين، وضعا ثيابهما على الآتان وجحشها كاعترافهم: نريد أن نضع ما نملكه تحت تصرف رب العالمين، وفعلاً الرب جلس على ثيابهم، وابتدأ بالنزول من جبل الزيتون نحو وادي قدرون.

 

موكب استقبال المسيح

 

أخبر التلميذان التلاميذ الآخرين بأفكارهما عن نبوة زكريا، الذي عاش خمسمائة سنة قبل المسيح. وهذه الشرارة ألهبت القلوب، فالكل أدرك، الآن حلت لحظة إتمام النبوات والوعود في العهد القديم، إذ يعلن ملك السماء مجده وسلطانه.

 

أراد التلاميذ الآخرون أن يبرهنوا إخلاصهم للرب الآتي، فخلعوا ثيابهم وفرشوها أمام يسوع، ليطى عليها وهو على ظهر الآتان. وأما الجمهور المرافق فقطع أغصانا من الأشجار، وطرحها أمام الآتي كسجاد، ونثروا الزهور في طريقه، وأرادوا أن يعدّوا طريق الرب، ويستقبلوه، ويقدموا أنفسهم له، وبدأوا يرنمون ويهتفون، وابتدأ الابتهاج.

 

يا للعجب، فالسلطة الرومانية المستعمرة لم تتدخل، لأنّ المسؤولين كانوا قد أرسلوا جواسيس بين المستمعين ليسوع، الذين قدموا تقارير: هذا النبي من الناصرة غير خطر. فتلاميذه لا يملكون السلاح، ولا يدرّبهم على استعمال السلاح الأبيض. هو وديع ومتواضع، ويأمر أتباعه أن يحبوا اعداءهم حتى الرومان. ويشفي المرضى، ويدخل كملك على ظهر حمار إلى القدس. فلا خطر من هذا الرجل على الدولة الرومانية.

 

أما الذين اشتركوا في هذا الابتهاج، فقد ساروا وراءه، وحوله، وأمامه، وبدأوا بالزغاريد، والهتاف، والأناشيد.

 

قد استلهموا من الحمارين أنّ دخول يسوع إلى أورشليم هو تتمة نبوة زكريا، وقد خيّم انتظار جماعي على الموكب بأكمله. وامتلأ  وادي قدرون بالتوتر، وكأنهم ينتظرون مفاجأة سماوية.

 

صرخ البعض:"أوصَنّا لابن داود". فكلمة أوصنّا في اللغة الآرامية يومها تعنى: أعِن، نجّ، وخلص! والعديد رأى في الراكب على الحمار ابن داود الموعود به (صموئيل الثاني 7: 13 - 14).  والوعد يقول أنه من سلالة الملك داوود النبي، وأنه يكون في الوقت نفسه إبنا لله، الذي تبناه، ومسحه بروحه. إن ملكوته ملكوت أبدي، ولا يسقط عرشه أبدا. صرخوا رافضوه هذه النبوات من نبوات العهد القديم لاستقبال المسيح الآتي، إذ أنه  ابن ملك وابن الله في آن واحد.

 

شخصَ الجميع على الذي خطف لعازر من مخالب الموت، وكان بين اليهود معرفة عامة بأن المسيح الآتي سوف يقيم الموتى، لذلك بشّر وجود لعازر بعد قيامته من الأموات بلغة واضحة.

 

وزيادة على ذلك ألهم الحماران الجماهير لإدراك، أن نبوة زكريا تتم الآن أمام عيونهم، والانتظار وصل إلى الغليان، فصَرخوا: أعنّا يا ابن داود، نجّنا سريعا، امنح خلاصك لأمتك. أما يسوع، فصمت، وركب ساكتا، ومرتفعا برصانة في وسطهم، إذ علم ماذا ينتظره في القدس، و أدرك ما هو وراء صرخة "أوصَنا" .

 

أما مجموعة أخرى فأنشدت:"مبارك الآتي باسم الرب". يختص هذا النداء عادة برئيس الكهنة، عندما صالح شعبه الخاطئ يوم الكفارة العظيم بالله القدوس. وربما شعرت الجماهير وتلاميذه، بأن يسوع ليس الملك والرب فحسب، بل يكون أيضاً رئيس الكهنوت، والوسيط الطاهر بين الله والناس. فحمدوه، وسبّحوه، وعظمّوه، لأنه ينشئ سلاما بينهم وبين الله.

 

بكاء يسوع على أورشليم.

 

اندست بين الجماهير الهاتفة بعض المتعصبين للشريعة الموسوية، وتقدمت بعنف إلى يسوع، وخاطبوه بخشونة: "يا معلم، انتهر تلاميذك" (لوقا 19 : 39)، واعتبروا التسبيح للمسيح الموعود ضلالا وتجديفا.

 

أما يسوع، فأجابهم برصانة: "إنه إنّ سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ" (لوقا 19: 40).

 

عندما أكمل يسوع سيره كانت ساحة الهيكل، والمدينة الغير مقدسة، مفروشة أمامه. وبينما كان يتبصر بها، ترقرقت الدموع في عينيه. أما الجماهير فكانت تتهلل، وترتل المزامير، ولكن يسوع بكى على أورشليم! أبصر التعصب الديني، والكفاح حول السلطة، والخدع، والرياء، والظلم، وتقسّي القلوب مجتمعة في هذه المدينة.

 

قال يسوع بصوت منخفض مخاطبا المدينة أورشليم: "إنّكِ لو علمت أنت أيضا حتى في يومك هذا، ما هو لسلامِك. ولكن الآن قد أخفي عن عينيك" (لوقا19: 41-42).

 

 ورفضه بالمتدينين أثبت علمه السابق، عن نفسه، وعن المدينة، فرأى مستقبل أورشليم بالتفاصيل، وبكى عليها.

 

الجماهير المرافقة لم تلاحظ هذا الحدث الجانبي، بل تهللوا، وعظموا مجد الرب بيسوع. وأعلن تلاميذه عن عجائبه في الجليل، ومجدوا الله على قيامة لعازر من الموت. فملأ فرح عظيم وانتظار أعظم موكب يسوع.

 

أما يسوع فالدموع سالت من عينيه، لأنه رأى في المدينة، ما يأتي، واشتمّ الروح المضاد لنفسه، وتألم من تدمير العاصمة من غضب الله مسبقا (لوقا19: 43-44).

 

تجاسر مع الوقت أتباع يسوع، وصرخوا بصوت عال:"يسوع هو الملك الجديد، ملك إسرائيل" (يوحنا12: 13). لقد أصبح دخول يسوع إلى أورشليم بهذا الهتاف خطرا كبيرا. فتحول قدومه إلى مشكلة سياسية، التي تخص القوة المستعمرة الرومانية من جهة، والملك هيرودس من جهة، واقتربت إمكانية الشكوى المدنية عليه.

 

أما يسوع فلم ينبس بكلمة. بقي صامتا على ظهر الحمار، وهو في وسط الجماهير الهائجة. ربما تدخّل البعض من تلاميذه، وأوقفوا الهتاف بنشيد لتتويج الملك. ولكن بعد أسبوع، رفع بيلاطس الوالي الروماني، هذا الدعاء على لوحة فوق رأس المجلود المرتفع كسبب لحكمه عليه.

 

استمر الآخرون، ورتلوا الآية من زكريا:"هوذا ملكك يأتي إليك". وأخذوا هذا الوعد الإلهي كوعد لهم شخصيا. لم يأت يسوع لبلاده فحسب، أو لمدينته، أو لكنيسة معينة، بل أتى لكل إنسان شخصيا، وهو يتقدّم إليك، أيها القارئ العزيز، ويريد أن يحلّ في قلبك وفي ذهنك. هل أنت مستعد لاستقباله؟ هل انفتح فؤادك لملك السماء والأرض؟ الذي يحل بروحه في كل مَن يشتاق إلى الحق، والصدق، والمحبة، والطهارة، والسلام، والغفران. ملكك يأتي إليك! هل تستقبله بأهلا وسهلا من كل قلبك؟.

 

ردة فعل أهل أورشليم.

 

انتشر الخبر عن مجيء المسيح كعاصفة في المدينة كلها، مع حجاجها بعشرات الألوف، الآتين من كل ناحية للاحتفال بعيد الفصح. اضطربت الجماهير، وتساءلت، هل هو المسيح الآتي؟ هل يعني مجيئه حدوث حرب أهلية، أو تحرير من نير الرومان؟ ارتجّت المدينة كلها، وركض الكثير ليروا الذي أقام الموتى، وهربت منه الأبالسة، والذي شفى كل المرضى الآتين إليه.

 

أما الحجاج الغرباء، فسألوا مرافقي السيد الراكب على حماره:"من هو هذا؟ لا نعرفه من أين يأتي؟". وكان الجواب من المتحمسين متحفظا، ولم يعترفوا بأنه ابن داود، ولم يسمونه الملك، بل قالوا وكأنهم غير مبالين: "هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل"(متى21: 10). عند هذا الإعلان انتهى الاهتمام عند الكثيرين، وتساءلوا:" أَمِن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟"(يوحنا1: 46).

 

كانت هذه المدينة مشهورة سابقا، بأن أهلها يهاجمون القوافل، ويخطفون رهائن، ويطالبون بالفدية لاطلاق سراح المخطوفين. وفوق هذا كله، لم يذكر الكتاب المقدس بوضوح، أن يأتي المسيح من الناصرة.

 

وابتدأ الهيجان من الجماهير يهدأ ويخف. فرأوا في يسوع شخصا عاديا، راكبا ظهر حمار، ومثله يأتي يوميا إلى العاصمة، ليعرضوا خضرتهم وفواكههم في أسواق المدينة.

 

بعدما عبر يسوع البوابة من سور المدينة السميك، انتظر كثيرون بانتباه، ماذا سيفعل أولا؟ هل يتقدّم مباشرة إلى برج الملك هيرودس، وينزله عن عرشه، ويتوج نفسه ملكا جديدا، أو سيتقدم إلى القلعة الرومانية (الانطونيو)، ويفتح بأعجوبة الأبواب المغلقة، وينوّم الحراس، ويتغلب على الرومان، ويطردهم. وأما آخرون فينتظرون منه أن يتوجه مباشرة إلى قصر رئيس الكهنة، لينشئ معه ملكوت السموات على الأرض. إنما لم يحدث شيء من ذلك. لم يحقق المسيح أمنيات ورغبات الجماهير. 

 

تابع يسوع مسيرته نحو الهيكل، بيت الله، ومركز الحضارة اليهودية، وبدأ يطهّر المعبد. طرد بائعي الحيوانات، والتجار من حول المعبد، وقلب موائد الصيارفة. وعندما سُئل:"لماذا هذا العمل؟" فأجاب:"مكتوب، بيتي بيت الصلاة يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص"(متى 21 : 13 ).

 

بعدئذ تقدّم يسوع إلى بهو سليمان، وجلس، وعلم الذين أرادوا أن يسمعوا إنجيله. وتقدّم المرضى إليه، فتحنن عليهم وشفاهم بكلمته، وحمل البعض المفلوجين إليه فأحياهم حتى قفزوا من الفرح، ورقصوا في ساحة الهيكل. أراد يسوع بهذه الشفاءات أن يعلن لأمته: كلكم مرضى، مرضى روحيا، بذنوب، والحاد، وكبرياء. جميعكم ساقطون إلى الدينونة. أنتم بحاجة ماسة إلى الشفاء، والخلاص، والعون الروحي. أنتم مفلوجون بخدمة العلي، وليس فيكم فرح الرب، ولا قوة الروح القدس، حتى تعيشوا لله، وتعبدوه بالشكر (متى21: 12-14).

 

ولكن الجمهور كان صمّا لتعليمه، وأعمى لعجائبه. فقد توقعوا منه ثورة سياسية، وحلول ملكوت السموات على الأرض، وأسفوا من يسوع، لأنه لم يستجب لهم، ولم يدركوا المرض للموت المتسربل فيهم، ولم ينفتحوا ليسوع، ليقيمهم، ويحييهم بالحياة الأبدية. 

 

عندما لا حظ رؤساء الكهنة والكتبة، أن الجماهير ابتعدت رويدا رويدا عن يسوع، أتوا، وتظاهروا في ساحة الهيكل، ونظروا كيف أتى الناس بمرضاهم والعمى ليسوع لشفائهم. فالهيكل البهي تحوّل إلى مستشفى عام، ولكن لم يدركوا أن ابن الله قد حلَّ في وسطهم، ليشفي، ويبارك، ويخلص.

 

وسمع الأحبار أن الأولاد رنموّا"أوصنّا لابن داود". فهم فقهاء التوراة والكهنة فورا معنى هذا النشيد. لم يفهم الأولاد ما قالوا، مرددين أقوال وأناشيد البالغين. فصوت الصغار كان صدى لنشيد الكبار، لذلك تقدم وجهاء المدينة غاضبين إلى يسوع، وقد تحلق حوله المرضى، وسألوه بشدة ومكر: "ألا تسمع ما يرنمه الأولاد؟".

 

فهم يسوع معنى سؤالهم فورا، وأجابهم:"نعم. أ ما قرأتم قط: من أفواه الأطفال والرضع هيأت تسبيحا"(مزمور8: 3؛متى8: 16).

 

كان يسوع يصلي سابقا في الجليل، بعدما أكمل خدماته الخلاصية: "أحمدك أيها الآب، رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه (الأسرار لملكوت الله) عن الحكماء والفهماء، وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب، لأنه هكذا صارت المسرّة أمامك" (متى 11 : 25 - 26 ).  اوضح يسوع بكلماته كهذه لعلماء التوراة في القدس أنهم لا يستطيعون أن يستقصوا بعقولهم وحكمتهم أسرار ابن الله. فمن لا يثق فيه مثل طفل لن يدخل ملكوت الله. فالروح هو الذي يحيي والجسد لا ينفع.

 

خيّم الليل على المدينة، وساد السكون في الأزقة. أما في البيوت فبحث الحجاج الاختبارات من هذا اليوم. لم تحدث ثورة، وما توّجوا ملكا جديدا. بقي الوضع كما هو، إلا بعض المرضى الذين شُفوا، والمشلولون قفزوا. ربما أدرك البعض أن هذا بمثابة العلامة للمسيح الآتي، حسب سفر اشعياء: "حينئذ تنفتح أعين العمى، وآذان الصم تتفتح. حينئذٍ يقفز الأعرج، وتصير السراب آجمّاء. والمعطّشة ينابيع ماء"( اشعياء 35: 5-6).

 

استمر التساؤل حول ابن مريم ويستمر حتى اليوم. سدّت الجماهير آذانها لسماع تعليمه في الهيكل، ولم يؤمن به، إلا القليل. وردة الفعل من قبل رؤساء الكهنة والمتدينين بدأت تتغلغل إلى القلوب. وحاولوا أن يفتحوا أمام يسوع فخاخا لاهوتية لكي يسقط فيها. أما هو فعالجهم حتى وقعوا في الفخ المنصوب له. وليس من إنسان مقتدر أن يجيب على أسئلة روح الله. واتضح بعد أيام قليلة إلى أين المصير سينتهي. تكاتفت بعض الرؤساء، أما يسوع فكافح لأجل مدينته، وتألم من الدينونات المقبلة، واعترف:

"يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء، وراجمة المرسلين إليها. كم مرة أردت أن أجمع أولادك، كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا،

هوذا بيتكم يترك لكم خرابا، لأني أقول لكم: إنكم لا ترونني من الآن، حتى تقولوا:  مبارك الآتي باسم الرب"

(متى 23: 37-38).

 

تعارض حتى اليوم أكثرية اليهود ملكهم الوديع. لهذا السبب لا محالة، بيتهم يصير خرابا، حتى يعترفوا، ويصلوا بدموع: "مبارك الآتي باسم الرب".

 

أما الشعوب الباقية، فإما أن يشفوا بيسوع، أو ينكسروا به، أو ينسحقوا برئيس السلام، إن لم يستقبلوه في قلوبهم، وبيوتهم. فمن هو الحكيم، الذي يستقبل ملك السماء والأرض؟ لا يزال الوحي يقول:"هوذا ملكك يأتي إليك" (زكريا 9 : 9 ).