المجوس من المشرق ونجمهم الهادي

( متّى2، 1- 23)

 التمهيد: التجمّعات اليهودية في بلاد ما بين النهرين.

 

عند سَبي نبوخذ نصّر للأمّة اليهودية مِن بلادهم إلى بابل، بدأت لهم مرارة العبودية، فتحقّقت فيهم نُبوة الأنبياء كأشعيا وعاموس وأرميا. انّما ربّ العهد لم يترك شعبه المتقسّي في عذاب السَبي، بل أرسل أليهم أنبياء جدد، مثل أشعيا الثاني، وحزقيال، ودانيال الذين عيّنهم الله لينشئوا في اليائسين التّوبة والإيمان والرجاء.

 

نجح بعض المسبّيين لأجل ذكائهم، ليدخلوا إلى المدارس العليا للكلدانيين، حيث تعلّموا بجانب المواضيع العامّة، عِلم الفلك. فنشأت في بلاد ما بين النهرين حضارة يهوديّة جديدة عصرّية. عندما انكسرت بابل، مركز الكلدانيين، سمح قورش الكبير للمسبيّين، 49 سنة بعد خروجهم من أرضهم، أن يعودوا إلى بلادهم الخربة، في سنة 539 قبل الميلاد. فأعطى حرّية للعبيد اليهود، وسمح لهم أن يبنوا وطنهم من جديد، لينشئوا قلعة حصينة فارسية، تجاه الفراعنة المصريين.

 

ويا للعجب، ليس إلا قليل الذين تجاوبوا لهذا الإمتياز بالعودة. كان بينهم الأنبياء كحجي وزكريا ونحميا وعزرا. الأكثرية اليهودية فضلت أن تعيش في كَنَف الحضارة المريحة، وحياة الرفاهية، تحت سلطة الفرس، وبنوا تجمعات يهودية، ومدارس التوراة مع التأثير الكلداني والفارسي. إنّما الوعود القوّية في العهد القديم، استيقظت في وعي الأتقياء، لأنّه كُتِب في أسفار العهد القديم مراراً، أنّه سيأتي مَلك إلهي، مِن أرومة داوود، ليَبني ملكوتاً أبدياً في القدس. وهؤلاء اليهود في الغربة راقبوا بتمعن التطورات السياسية في الشرق الأوسط، فتعجّبوا عندما غلب الإسكندر الكبير سنة 333 جيوش المملكة الفارسية العظيمة، التي كانت تشكل حضارة خاصّة بين أفريقيا وآسيا. وغطى الإسكندر العظيم بعد انتصاره المناطق الخاضعة له بأنظمة وأبنية وأديان يونانية، إنّما عظمة الإسكندر الشابّ، انكسرت بعد موته سنة 323 قبل الميلاد إلى أربع دويلات، التي حكمت أولاً المصريين ثم السوريين في مناطق حول القدس.سمح المصريون لرؤساء الكهنة في أورشليم أن يؤسسوا حُكماً دينياً. في ذلك الوقت تُرجم كتاب القديم إلى اللغة اليونانية لأول مرة (سَبْتواكنتا). ولكنْ بعد أن السوريون حكموا المنطقة حول القدس بدأ الإضطهاد الدموي في محاولة لتغيير الحضارة اليهودية إلى الحضارة اليونانية غصباً وصل هذا الاضطهاد في عهد انتوخوس الرابع إلى قمته، فهرب اليهود، الأمناء للتوراة، إلى مجتمعات اليهودية في بلاد ما بين النهرين أفواجاً.

 

وبعدما تخلّص اليهود الثائرين مِن الإضطهاد المرير، شكّل رؤساء الكهنة مملكة مستقلّة لمدّة مئة سنة في المناطق حول القدس. لم يحدث سلام بينهم، لأن العشائر اقتتلت فيما بينها. كان هناك جماعة اسمها الصدوقيون الذين أرادوا أن يحققوا مبادىء اليونانية الحديثة في بلادهم، أما الجماعة الأخرى الأتقياء المتمسكين بشريعة التوراة المسمى الفريسيون كافحوا لأجل تنفيذ قوانين 623 مِن شريعة موسى. فكلّ مَن نجح في الحكم ضغط على الآخر واضطهده. في ذلك الوقت هَرب المئات مِن الكهنة والأتقياء إلى مستوطنات يهودية عند الفرات، فانتقلت الحياة الروحية اللاهوتيّة مِن جبال اليهوديّة إلى بلاد ما بين النهرين مرّة أخرى.

 

وتغيّرت هذه الحالة عندما فتح الرومان سنة 63 قبل المسيح القدس، وفرضوا على اليهود دفع الجزية. وعينوا الملك هيرودس، العميل العنيف للرومان، حاكماً ثم مَلكاً على كل مناطق إسرائيل ويهودية من سنة 37 قبل المسيح إلى سنة 4 بعد المسيح. كان هيرودس ذكياً كالثعلب فحافظَ على سلطانه عند القياصرة الذين كانوا أعداء لبعضهم البعض، مثل انطونيوس ويوليوس وأغسطوس. جدّد هيرودوس الهيكل الثاني، ووسّعه مع ساحة الهيكل، وبنى مُدناً جديدة على الطراز الروماني، ليربح محبّة الشعب الذين كرهوه.

 

راقب أولاد المسبيّين واللاجئين الساكنين في بلاد ما بين النهرين التطورات المتقلبة في أراضي وطنهم، وبدأ فيهم الرجاء لأجل إنشاء الأبنية الجديدة والفخمة، ورجعت بعض العشائر إلى جبال اليهودية، وجمع الأتقياء عند الفرات أموالاً وذهباً لترميم الهيكل في القدس.

 

أولاً:ظهور النجم الغريب

 

 أدرك علماء الفَلك اليهود، الساكنين في بلاد ما بين النهرين، اقتراب الكوكبين زحل والمشتري في برج الحوت بتاريخ 29 أيار سنة 7 قبل المسيح. وقد كهرب هذا الإدراك اليهود في الغربة، لأنهم رأوا في زحل الحامي شعبهم و في المشتري كوكب الملوك. فلا بدّ من حدوث أمر غريب وعجيب. واستنتجوا من هذا الإقتراب الظاهر للكوكبين، أنّ في هذا اليوم وُلد المسيح الموعود، وأنّ الله أرسله ليُنشىء مملكة السلام في القدس، ولا مُكوث لهم فيما بعد. هيا إلى القدس، ليسجدوا للملك الإلهي الجديد! ساعد المسؤولون في مركز الفلك والتجمعات اليهودية هؤلاء المسافرين، عن طريق جمع تبرعات تكاليف للسفر الطويل، وتقديم الهدايا للمَلك المولود. فأرادوا أن يُكرموا المَلك الجديد، وتمنّوا أنْ يَقبل مستوطناتهم في مملكته الجديدة، الواسعة في كلّ أنحاء العالم.

 

سافر المجوس مِن المشرق، أولاً من بلاد زِيكورات (أبراج) نحو أبو كمال على نهر الفرات، وبعدئذ إلى الصحراء السورية، التي تبعد 350 كلم، عبر واحة تدمر، إلى مدينة حماة، فمدينة حمص ثم نحو الشام وطبريا، ونزلوا مِن وادي الأردن إلى أريحا، ثم تسلّقوا باتجاه أورشليم. كانت هذه الرحلة المتعبة لمسافة 1400 كلم، مع العلم أن الطريق المباشر من منطقة بابل إلى أريحا عبر واحة الرطبة إلى القدس يكون فقط 900 كلم. إنما في هذا الوضع يومئذ كان عليهم أن يتحملوا هذا العبء في السفر 800 كلم في الصحراء المرعبة. لذلك فضّلوا الطريق الأبعد عن طريق أبو كمال تدمر حتّى أوروشليم، وحتّى اليوم ترتاح أكثرية القوافل في تدمر لينابيعها الكِبريتية وبيوتها العالية المخصصة لجثث الأموات، التي تنشف في الهواء الناشف المطلق.

 

راقب المجوس مِن المشرق النجوم والكواكب ليلاً، واكتشفوا في تشرين الأول في اليوم الثالث في السنة السابعة قبل المسيح، الإقتراب الثاني مِن الكوكبين، وتيقّن المسافرون مِن مقاصدهم، وأكملوا سفرهم بحماس ورجاء.

 

ثانياً: استقبالان مِن هيرودس للمجوس

 

نزل المنجمون مِن الفرات إلى القدس، أولاً عند عشائرهم القريبة، التي رجعوا مِن بلاد ما بين النهرين، وسألوهم عن مَلك اليهود المولود جديداً، فكان لسؤالهم صدًى كقنبلة هزت كل أركان المدينة، لأن لا أحد يَعلم شيئاً عن ملك مولود جديد. فخاف الكل مِن ثورة وتفتيش البيوت واغتصاب. وعندما استنتج الملك هيرودس المرتاب، بواسطة جواسيس، عن هذه المسألة المثيرة، فدعا فوراً المجوس إلى مجلسه، ولكنّهم لم يعرفوا أكثر، إلا أنهم متيقنون بأنَّ المسيح الموعود مِن الله قد وُلد في الأراضي المقدسة.

 

وبعدما استنتج هيرودس مِن المسافرين عن المَلك المولود جديداً، أنه المسيح المعلن مِن قِبل الأنبياء مسبقاً، فدعا رؤساء الكهنة والكتبة مِن شعبه، ودفعهم للمعرفة مِن أسفار الكتب عمّا سمعه عن بلدة ولادة المسيح الموعود.

 

وأعطى رؤساء الكهنة والكتبة الجواب سريعاً إلى هيرودس، وقرأوا الآية المشهورة من سفر ميخا للملك المرتاب:" أمّا أنتِ، يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل ( ميخا 5، 2). أن يحسبوا بدقة متناهية هذا الحدث.

 

كان هيرودس غير مؤمن، ولا يبالي كثيراً بهذه الوعود، ويعتبر أنّ هذه القضية غير مهمّة، إنما اهتمّ ألا يحدث شغب في الشعب. فدعا المجوس ثانية إليه سِرّاً، وقبل هداياهم، وأخبرهم، أنّ المَلك الإلهي المرجو سيلد على بعد ثماني كيلومترات جنوب القدس، في قرية بيت لحم. استخبر هيرودس من المجوس خاصّة، متّى ظهر الكوكبان كوحدة لأول مرة وحفظ التاريخ 29 أيار سنة 7 قبل المسيح، كأساس لمقاصده الخفية، وطلب المَلك الثعلب مِن المجوس رسمياً، أن يسافروا إلى بيت لحم، ويفتشوا عن الطفل، ويرجعوا لاخباره شخصياً عن كل ذلك، عندئذ سيتقدم هو أيضاً إلى بيت لحم، ليسجد لذلك المولود الإلهي الجديد.

 

ثالثاً: سجود المجوس للطفل يسوع

 

عندما أقلع المجوس المسافة القصيرة جنوب القدس، طلبوا من الله ليهديهم بنعمته، وأدركوا عندما سافروا ليلاً أنّ نجمهم ظهر فوراً، وهذه المرة ليس في الغرب، كما في المظهرين السابقين في شهر أيار وتشرين الأول، بل لمع في كانون الأول في اليوم الثالث من السنة السابعة جنوباً بكل وضوح، الأمر الذي يستطيع منه علماء الفلك اليوم من مراصدهم. لم يبال أهل بيت لحم عن ولادة يسوع في مغارة بيت ساحور، ولم يؤمنوا بأخبار الرعاة عن ظهور الملائكة، وربما سخر البعض عن ولادة المسيح من عذراء، واستهزأوا بها.لم يَنل المجوس عوناً من أهل بيت لحم عند تفتيشهم عن المَلك الإلهي المولود جديداً. وُلد أولاد كثيرون في مدينة داوود، وكان يفضّل كل أب، أن يكون ابنه هو المختار، وليس الطفل مِن الغرباء مِن الناصرة، فأهملوه إهمالاً كاملاً. فهكذا بقي أصحاب الفلك منعزلين، وحاولوا أن يجدوا مكان ولادة يسوع، ومسكن أمّه بواسطة إقتراب الكوكبين. وعندما رأوا أنّ الكوكب كان واقفاً فوق بيت معين، حيث انتقلت إليه العائلة المقدّسة بعد ستة أشهر مِن ولادة يسوع، وفرح المجوس لأنّ الربّ أعطاهم اليقين، من أن هذا البيت هو المسكن المطلوب، الذي أشار إليه النجم، ودخلوا فوجدوا الطفل يسوع وأمه. لا يخبرنا الكتاب المقدس عن بحث أو مكالمة إن كان هذا الطفل هو المسيح الحقّ أم لا، لأن الله قد أرشد المجوس بعد مسيرة 1400 كلم بالتمام إلى البيت المعين، ومنح لهم اليقين، بأنَّ هذا الطفل يسوع مِن الناصرة، هو المسيح الموعود الحق ولا أحد غيره. لا نعرف كم المجوس الذين اشتركوا في هذه الرحلة الطويلة، فالإنجيل لم يتكلم عن واحد أو إثنين أو ثلاثة إلا أن القواعد تساعدنا وتوضح لنا بأن العدد ليس واحداً أو إثنين بل ثلاثة على الأقل.

 

 لمّا أدرك المجوس أن الطفل هو إبن الله فركعوا وسجدوا لرئيس السلام، الذي سيُصالح العالم بالله. يعلمنا سجود المجوس أنّ العلماء الأتقياء يخضعون لشخصية وسلطان يسوع، ويُسلمون أنفسهم له، كعبيد له، ويضعون أنفسهم بتصرفه إلى الأبد. ويتّضح مِن هذا السجود أنَّ عُلماء الفلك لم يؤمنوا بكواكبهم، ولم ينتظروا ملكاً دنيوياً، بل أدركوا أنّ في هذا الطفل صار الله بنفسه إنساناً. كانوا يقرأون الوعد العظيم في سفر أشعياء،وتأمّلوا به، وحفظوه غيباً:" لأنَّه يُولد لنا ولد، ونُعطى إبناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام، لِنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليُثبتها، ويعضدها بالحقّ والبِرّ، من الآن إلى الأبد" ( أشعيا 9، 6- 7).

 

يحقّ السجود لله ولإبنه وحده. من يؤلّه إنساناً يُجدّف، ومن يسجد للقمر أوالشمس مثل الوثنيين في روسيا وكوريا والصين يجدّف أيضاً. نقدّم ثقتنا ليسوع إبن الله، ونُكرم بِنفس الوقت أبانا الذي في السموات. نحبّ الآب والإبن بقيادة الروح القدس، ونشكره، لأنه أعلن نفسه في ابنه. يقشعرّ اليهود والمسلمون مِن السجود ليسوع، لأنّهم لم يعرفوا الآب والإبن، لأن ليس الروح القدس فيهم، لكنّ يثبت للمسيحيين الإمتياز، أن يَنحنوا عميقاً للآب والإبن، ويشكروه لأجل مجيئه وفدائه الأبدي.

 

رابعاً: هدايا المجوس

 

ما كان سجود المجوس نظرياً فحسب بل عملياً. ولم يتكلموا عن الله وإبنه فقط، بل أتوا بِذَهَبْ ولُبان ومُرّ هدايا كتقدمة لإكرامه. ينتبه الإنسان أولاً للذَهب كما أنّ الملك سليمان جمع كل سنة 666 وزنة ذهب مِن ضرائبه، وكلّ وزنة مقدارها خمسون كيلو ذهب ( أول الملوك 10، 14). بهذه الآية يظهر لأول مرة عدد 666 الرمز للمسيح الكذاب، فيسوع علّمنا بوضوح:"لا تقدرون أن تخدموا الله والمال". تحاول الأكثرية العمل بعكس هذه الوصيّة، ويحاولون أن يخدموا الله والمال معاً، إنه وهم، لأنّ الله يريد، أن يملك قلوبنا وحده كاملاً. لنا الإمتياز أن نضع أموالنا وذهبنا تحت تصرف الله ونهديه إياه.

 

 أمّا بالنسبة ليسوع فكان الذهب مصاريف السفر للهرب المنتظر نحو مصر، فأبوه السماوي اهتمّ بأمره مسبقاً، لم يترك إبنه في حالة يأس وضيق. الجماعات اليهودية في الغربة في بلاد ما بين النهرين تمكّنت بتضحيتها نجاة يسوع بهربه مسبقاً، بدون علمهم، فالتبرّعات بارشاد الرّوح القدس تستطيع أن تقدّم عوناً ضرورياً لأفراد أو جماعات في ملكوت الله.

 

أما اللُبان فيدلّ على التمجيد والسجود للآب بالإبن. كان يسوع دائماً يمجّد أباه السماوي، فأنكر نفسه، وكان متواضعاً، حتّى اعترف:" لا يقدر الإبن أن يعمل مِن نفسه شيئاً، إلا ما ينظر الآب يعمل. لأنّ مهما عمل ذاك فهذا يعمله الإبن كذلك" ( يوحنا 5، 19).

وقال أيضاً:" الكلام الذي أكلمكم به، لستُ أتكلم به من نفسي، لكن الآب الحالّ فيّ هو يعمل الأعمال" ( يوحنا 14، 10). إنّ مَلكنا الإلهي متواضع القلب، ويقدّس بأقواله وأعماله اسم أبيه في السماء دائماً. والطلبة الأولى في الصلاة الربانية هي الطلبة الأكثر أهمية في هذه الصلاة النموذجية. فكيف تقدّس إسم الآب ونمجدّه؟ افتح قلبك لروح القدس، فيرشدك كيف تكرم اسم الآب اليوم. روحه يقدّسنا، ودَم يسوع المسيح يطهّرنا، لنستحقّ أن نسجد للآب ونخدمه. هل أصبحت حياتك شيئاً لحمد نعمته المجيدة.

 

أمّا المُرّ فهو دواء غالي الثمن، ويستطيع أن يشفي أمراضاً عديدة. أمّا بالنسبة ليسوع فهو الدليل على آلامه وموته. قد حمل خطيئة العالم وقصاصنا كنائب لنا عمداً:" لأنه جعل الذي لم يعرف خطيئة خطيئة لأجلنا لنصير نحن برّ الله فيه" (كورنثوس الثانية 5، 21). كان مصير يسوع مُرّاً إنما ثبت ممتلئاً بالفرح في المحبة والسلام. يشترك المسيحيون في آلام المسيح، لأنّهم أصبحوا غرباء في هذا العالم. كِياننا في المسيح يُدين السطحيّين والحياة الأبدية الموهوبة لنا تُعلن موتهم الروحي في الخطايا. مَن يريد أن يتبع يسوع يُنكر نفسه، ويحمل صليبه ويتبعه، وإن حدث أنّ واحداً لم يختبر اضطهاداً وضيقاً لأجل اسم يسوع فيليق به، أن يقبل المضّطهدين ويأويهم، ويُعزّي الذين يُطردون مِن بيوتِهم ويتألمون مِن الإهانات والضربات.

 

خامساً: الهِداية بروح الله وطاعة المهتدين

 

أمر الله المجوس في الحلم، أن لا يرجعوا إلى هيرودس، بل يُسافروا بطريق آخر، وينزلوا على البحر الميت فوراً، ويسرعوا إلى بيتهم البعيد. ربما لاحظوا مِن تلقاء أنفسهم، أن هيرودس كان طاغياً مستهزئاً وقتّالاً بقلب حجري، فشكروا ربّهم، أنه أمرهم مباشرة أن لا يرجعوا إلى القدس، فأطاعوا هُداه فوراً، واختفوا بدون ضجّة.

 

وبعدما ترك المجوس بيت لحم، ظهر لهم ملاك الربّ بجلاله ليوسف، أبو يسوع بالتبني في حلم أيضاً، وأمره بكلمات قصيرة:" قُم مِن النوم فوراً وخُذ الطفل يسوع وأمه واهرب بسرعة إلى مصر وامكث هناك مع يسوع وأمه إلى حين، أعطيك أمراً جديداً لمسيرك. إن هيرودس صمّم على قتل يسوع حتماً فاهرب حالاً ".

 

 أدرك يوسف عظمة مسؤولِيته، وقام فوراً، ولم يعتبر حلمه سراباً، بل أيقظ الأمّ وطفلها، وجمع لزوميات السَفر، وفَرّ في منتصف الليل على حمار نحو بئر سبع وغزة، حتّى وصلوا إلى مصر، بعد سفر طويل متعب، محفوظين بحماية ربّهم. يفخر المؤمنون في مصر اليوم، أن يسوع التجأ إليهم، وأقام عندهم لمدة سنوات. أمّا يسوع فكان ينبغى عليه، أن يتبع طريق شعبه ويُكمّل النبوءة: "مِن مصر دعوت ابني"  (متّى 2، 15).     

 

وحتّى اليوم يدعو الرب في مصر أقباطاً إلى إتباعه، ليحملوا إنجيله إلى كل بلد، ينطق فيه باللغة العربية. فمَن يسمع صوت الربّ في ضميره ويُطيع كلمته فوراً؟ عندئذ ينال بركة عظيمة، ويُصبح بركة للكثيرين.

 

سادساً: مجزرة الأطفال في بيت لحم

 

كان هيرودس قتالاً وسفّاك دم، وأصبح في طموحه نحو السلطة والعظمة أكثر بطئاً وقاتلاً للجماهير. فأمر بقتل زوجته، وأمها، وابنَيه على أساس تهمة مِن ابنه الثالث، وقتل حتّى ابنه الثالث قُبيل موته الخاصّ. فقيل عند الرومان:"أفضل أن يكون الإنسان خنزيراً لهيرودس، مِن أن يكون امرأته أو إبنه".

 

لما استخبر هيرودس مِن جواسيسه، أن المجوس وجدوا يسوع المسمّى المسيح، إنما هربوا خُلسة بطريقة أخرى، اغتاظ الطاغي في غيظه، وأمر بقتل جميع الأطفال في بيت لحم ومحيطها، الذين هم مِن سنتين وما دون. هذا الأمر المرعب يبيّن لنا بوضوح أن المسيح كان لديه مِن العمر سنة ونصف عندما أتت موجة السفّاح على بيت لحم.

 

يسأل البعض لماذا سمح الله بقتل أطفال أبرياء بهذا المقدار؟ ولماذا يسمح بضيقات وحزن في العالم؟ لا نعرف الجواب الأكيد، إنما يَليق بنا أن نتذكر أن أهل بيت لحم لم يقوموا بزيارة يسوع في المذود، ولم يظهروا اهتماماً كبيراً عندما طلب المجوس المسيح المولود حديثاً، ربما ابتسموا أو ضحكوا على هؤلاء الأتقياء الغرباء وخرافاتهم.

 

فقد حل مَلك الملوك في وسطهم، ولم يسجد أحد مِن بيت لحم للملك الجديد، إلا الرُعاة! فهل كان قتل أطفال بَيت لحم قصاصاً لهم على كفر وكبرياء أهل القرية؟ وهل نستحقّ نحن قصاصاً شبيهاً على اهمالنا للنعمة المعروضة علينا؟

 

خير لنا أن ننتهي بالغرور بأنّ الأطفال أبرياء، لأنّ كل الناس فاسدون مِن الخطيئة الموروثة منذ آدم، فأعلن داود وبولس الحكم الفاصل:" ليس من يعمل صلاحاً ولا واحد!" ( مزمور 14، 3 ؛ بولس رومية 3، 12). جميعنا مستحقون غضب الله وإن عشنا فلا نعيش لصلاحنا، بل بسبب نعمة الله. الضيقات في العالم تدفعنا نحو التوبة، لنلتمس من طفل المذود، أن يخلّصنا من غضب الله، ودينونته العادلة، ونتقدّس تقديساً حقاً. فقبول المخلّص والسجود له يعطينا الحقّ أن نعيش اليوم وفي كل الأيام.

 

سابعاً: المجوس ونحن

 

مَن يعي الخبر عن السفر الطويل للمجوس مِن بلاد ما بين النهرين ذهاباً وإياباً مسافة 2800 كلم يليق به أن يسأل نفسه:

 

1-كم قيمة يسوع في حياتك حتّى تستعد لتتعب وتضحي وتصرف وقتاً لأجل الملك الإلهي؟ هل تعيش لنفسك أو لأجل ربـّك؟ سوف يسألك يسوع ناظراً بالنسبة آلامه وموته الكفاري: كل هذا فعلت لأجلك  فماذا فعلت أنت لي؟

2-هل نسجد للآب بواسطة الإبن أو لا نزال نكرم أنفسنا أو تحررنا مِن الأنانية ولمجد خالقنا ومخلصنا وقاضينا؟ تأمل حقاً كيف تستطيع أن تقدس اسم الآب؟ هو قدوس في ذاته ولا يحتاج إلى تقديسك إنما يسمح لك أن تحبه فوق كل شيء وتكرمه وتخدم المحتاجين في دنيانا كما خدمنا يسوع فكيف تظهر هذه الخدمة عملياً؟

3-أطاع المجوس ويوسف الله في أحلامهم وكانوا مطيعين لربهم فوراً. إن سمعنا بقلوبنا عند قراءة الكتاب المقدس أو عبر صلواتنا إلهاماً أو أمراً مِن الله فهل نطيعه بودٍ وفوراً وكاملاً؟ إن الموت والحياة لأجلنا ولأجل الآخرين تتوقف على مدى اطاعتنا الإيمانية، فهل نستعد لنلبي دعوة يسوع فوراً؟

4- الطريق الطويل مع تعبه احتمله المجوس من المشرق إلى القدس والعودة يدلنا على أن بعض الناس يحتاجون إلى وقت طويل حتّى يجدوا يسوع حقاً، فهل أنت مستعد أن تخدم طالبي الحق؟ وتستقبلهم وتنصحهم وترافقهم وتباركهم وتكون أميناً لهم حتّى في أوقات الإضطهاد؟ اطلب مِن يسوع أن يعطيك أعيناً مفتوحة في قلبك لتدرك طالبي الحق في محيطك وتقدّم نحوهم وصلّ لأجلهم حتّى يمنح الرب الثقة والقبول لكلمتك. كثيرون يطلبون يسوع في أيامنا ويتوقعون أن يجدوا إنساناً يساعدهم.

5-لا يقصد الخبر عن المجوس أن نسرع إلى المنجّمين والعرّافين ونطلب منهم أنْ يقرأوا لنا الطالع أو نستفهم اليوم الأفضل للزواج وأنْ نزرع النبات في حركة ظاهرة النجوم. فلا ترجع إلى غرور الوثنيين لأن يسوع هو كوكب الصباح الذي فتح لنا عصراً جديداً بل هو نور العالم وشمس البر لحياتنا فهو الذي يقوّينا ويمنحنا خدمة إرشاد روحه فلا ترجع إلى المنجمين والمبصرين ولا تمش منعزلاً في الضباب أو متروكاً في الليل الحالك لأنّ الملك الإلهي قد حضر وهو يرافق كل مَن يثق به ويعتني بنا فنحن محفوظون في نعمته ومَن يتبعه لن يكون وحيداً، فهل وجدت الرب يسوع وتسجد له مسلماً له حياتك إلى الأبد؟

 

ملحق: متّى ولد يسوع حقاً؟

 

د ما تأكدنا مِن التاريخ البشري مِن أن هيرودس الكبير قد مات في السنة الرابعة قبل المسيح وأن الأطفال المقتولين في بيت لحم هم دون السنتين فيليق أن نفهم أن يسوع ولد ست سنوات قبل بدء تاريخ المسيح.

 

وهذا الإستنتاج يؤكّد مِن ظهور الكوكبين ثلاث مرات في السنة السابعة قبل المسيح فيجوز أن نتوقع ولادة المسيح في ربيع السنة السابعة قبل المسيح.

 

وبالتأكيد لم يولد يسوع في يوم عيد الميلاد في السنة صفر قبل المسيح لأن التاريخ لعيد الميلاد عُيـّن في السنة 335 بعد المسيح مِن قبل الباباوات ليغلب إيمان الوثنيين بشروق الشمس بعد اليوم الأقصر في 21/ 12 من كل سنة فأعطاهم عيداً أعظم أي ظهور شمس السماء في ولادة الطفل يسوع في بيت لحم. وهذا النظام المتبع حسب النظام الغربي.

 

وليس مِن الضروري لأجل الخلاص لنعرف بالضبط متّى ولد يسوع. بل المهم أنه ولد الملك الإلهي حقاً وأصبح إنساناً مستعداً أن يكفرّ عن سيئاتنا وفتح لنا الطريق المؤدي بنا إلى أبينا السماوي.