أُطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبِرّه

( متّى 6، 33)

 

لكلّ إنسان هموم ومشاكل تضغط عليه وتطحنه، وبعض المرّات تتكاثر كالجراثيم تنتقل كالمكروب. أمّا يسوع فيريد ويستطيع أن يحرّرك مِن هذه الضيقات ويشجّعك و يقول لك:أُنظر إليّ وإمكانياتي، ولا تتفرّس بضيقاتك. استطيع أن أُعينك، أقصد أنْ أُجدّدك مِن الداخل وأغير ذهنك، لكي تنظر إلى مشاكلك ببصيرتك الموهوبة مِن الله. إنسَ همومك وارتكز عليّ وعلى ملكوتي الروحي، فتنل أفقاً جديداً وتستمدّ منّي قوّة عظيمة.

 

ما هو ملكوت الله؟

 

السِرّ في أي ملكوت حسب الأصول في اللغات السامية، هو المَلك. هو مالك ملكوته. كلّ ما في الملكوت يخصّه، ويقدر أن يعمل به ما يريد. فالمَلك هو الأكثر أهميّة مِن كل أمور الدنيا. كما المَلك هكذا الملكوت! ويكون للمَلك شعبه ما لهم مِن لغّة ومواهب عديدة، وتقاليد تاريخية فملكوته غنيّ بالتراث. فالإهتمام بالتقاليد وروح مقاصد المَلك تصيغ الملكوت. كلّ مملكة تحتاج إلى نظام، فالمَلك يسنّ الشريعة الشاملة كل نواحي حياة شعبه. هذه الشريعة تشكل الحضارة وسلوك شعبه. يدعو المَلك لتنفيذ شريعته بواسطة وُزراء أمناء، وتحمي جيوشه شعبه، والموظفون مسؤولون تُجاهه وسلطتهم مستمدّة منه.

 

المَلك هو قاضي القضاة على شعبه، فيقاصص المجرمين حسب شريعته، ويمنح لخدامه الامناء نعمة لأجل خدمتهم المخلصة.

 

الملكوت مكوّنة مِن المَلك وشعبه وشريعته وموظفيه والملك هو الديّان. ونريد أن نفكّر بملكوت الله مِن حيث هذه النواحي الخمس.

 

المسيح هو المَلك الروحي

في ملكوت السماوات

 

 نقرأ في العهد القديم الآية المثيرة:

"ابتهجي جداً يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم! هوذا مَلكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور وديع، وراكب على حمار وعلى جحش ابن آتان." (زكريا 9،9).

عندما أتى المَلك يسوع في مجيئه الأول، لم يأتِ كرئيس لجيوش، وقهّار على حصان أبيض برّاق، بل أتى وديعاً متواضعاً، فقيراً وبدون أسلحة، راكباً على حمار. فيتّضح مِن هذا الظهور بأنه ليس مَلكاً دنيوياً، بل مَلكاً روحياً إلهياً. هكذا اتّضح لبيلاطس الوالي الروماني في آخر حياته الدنيوية :"مَمْلكتي ليست مِن هذا العالم. لو كانت مَمْلكتي مِن هذا العالم لكان خُدّامي يُجاهدون، لكي لا أسلّم إلى اليهود، ولكن الآن مَمْلكتي ليست مِن هنا .....انّي مَلك. لهذا قد وُلدت أنا. ولهذا قد أتيت إلى العالم، لأشهد للحق، وكل مَن هو مِن الحق يسمع صوتي" (يوحنا 18، 36- 37).

كان يسوع قبل هذا الإعتراف يأمر بطرس مقدام تلاميذه في بستان جسيماني:"رُدّ سَيفك إلى مكانه، لأن كلّ الذين يأخذون السيف بالسيف يَهلكون!" (متّى 26، 52). إن يسوع وهو مَلك! امتنع عن كل نوع من استخدام السلطة المدمّرة لتنفيذ ملكوته. لقد كان وديعاً في النيّة والعمل، وكان مختلفاً كل الإختلاف مع الملوك والأسياد في هذه الدنيا. لم يملك يسوع حصاناً، وما كان عنده حمار خاص، فمشى على قدميه إلى كل القرى والمدن في بلاده، لقد أخلى عمداً مجده، وظهر فقيراً للفقراء. أراد أن يكون صغيراً ليربح الصغار، وكان متواضع القلب، آتياً كخادم، وليس كسيّد، كما اعترف جلياً:"إنّ إبن الإنسان لم يأتِ لِيُخْدَم بل لِيَخدُم، ويبذل نفسه فدية لكثيرين" (متّى 20، 25). ما زار يسوع الأمراء والسلاطين والفلاسفة والأغنياء، بل أحبّ المساكين والمحتقرين والمُخطئين. شَفى بسلطانه الروحي كلّ مَن أتى إليه مِن المرضى، وأخرج الشياطين مِن الملبوسين بأوامره المَلكية. وحتى الأموات أقامهم بكلمة قدرته، فكان الراعي الصالح المُستعدّ أن يفتّش عن خروفه الضّال، حتى يجده، ويحمله إلى حظيرته بفرح (لوقا 15، 1- 7).

كان يسوع خطيباً شهيراً، أصاب قلوب الناس، وعاش ما قاله، فدعا كل طامع إلى التوبة "قد اكتمل الزمان، واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" (مرقس1، 15). غضب الأتقياء لأجل دعوته للتوبة، إذ ظنّوا أنفسهم أفضل مِن الخطاة المرفوضين. أبغضوا يسوع، لأنه طلب منهم الرحمة عوضاً عن الذبائح، والمحبة عوضاً عن أحكام الشريعة. أما هو فشفى المفلوج يوم السبت وسط معابدهم. حَكم نواب متطرفون عليه في محكمة دينية، وبصقوا على وجهه، وسلّموه إلى الوالي الروماني بيلاطس، ليحكم عليه بالموت. أما هو فأراد أن يُطلق يسوع حُرّاً، لأنه لم يجد فيه عِلّة. فاعترضوا عليه حتى أمر بجلد يسوع وصلبه. أما المَلك المصلوب فتحنّن على أعدائه، وابتهل إلى الله لأجل الخطاة:"يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 23، 35). رأى اللصّ المصلوب، المسيح بجانبه وسمع، أنّه تصرَّف مختلفاً عن الآخرين. ولمس أنّ المصلوب هو المسيح الموعود، وطلب إليه:"اذكرني، يا رب، متى جِئتَ في ملكوتك"! فجاوبه يسوع فوراً: "الحقّ أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوَس!" (لوقا 23، 42- 43). فهَلْ كان اللصّ التائب الإنسان الوحيد الذي خلّصه يسوع،  ما دام على هذه الدنيا؟ هل كان هذا اللصّ المُنعم عليه رمز الذين يدخلون إلى ملكوت الله؟

بَنى يسوع ملكوته على الحقّ الإلهي. لا يستطيع أحد أن يدخل إلى ملكوته إلا مَن يقبل تبريره المجاني بالإيمان والشكر والحمد. حمل يسوع تاج الشوك الذي وضعوه على رأسه بقسوة حتّى انبثق دمه. وكان مكتوباً فوق رأسه على لوحة الأحرف الأولى مِن الكلمات التالية:"هذا هو مَلك اليهود" (لوقا 23، 38) بالعبرانية واليونانية والرومانية. فمعارضوه اشتركوا مِن دون عِلم أنّ مَلك الرحمة قد أتمّ الفداء والخلاص لكلّ التائبين المؤمنين (يوحنا 19، 23).

أما المسيح فهو مَلك الملوك! قد قام مِن بين الأموات! قام حقاً وغلب الموت. لم يستطع الشيطان أن يقوده إلى الخطيئة، فانكسر الشرير أمام حمل الله البريء. وتمّت المصالحة بين الله والناس على الصليب، وظهرت فِعلتها في قيامة المصلوب مِن بين الأموات.

ومُنذ ذلك الوقت، كل الخطايا مُحيت. خمد غضب الله على العصاة بسبب ذبيحة المَلك النائبة. المسيح هو المنتصر! تبيَّن أن حمل الله هو أقوى مِن كل القـِوى المضادة لله. مات المَلك عوضاً عن شعبه الرديء، إنه أحبّهم إلى المنتهى، ويعيش مع أبيه السماوي إلى الأبد. فكل مَن يؤمن به يتبرّر وينال منه الحياة الأبدية.

 

الشعب في ملكوت السماوات

 

دعا يسوع تلاميذه الأولين مِن عند يوحنا المعمدان، حيث اعترفوا هناك بخطاياهم أمام الله، وغطسوا تحت المياه رمزاً لاستحقاقهم الموت غرقاً. فأهالي ملكوت المسيح الأولون كانوا خطاة منكسري القلوب. ما كانوا أبراراً مِن أنفسهم، بل كانوا فاسدين منذ ولادتهم (المزمور51 ،  5. 10- 12). فعرفوا أنهم تجاوزوا شريعة الله بموسى، وهم مذنبون مستحقّون الفناء. تيقنوا أنهم لا يعيشون إلا بنعمة الله وحده، وبرحمته يدومون. قد ذاب كبرياؤهم، وعاشوا مِن وراء نعمة وبِرّ الله الموهوب لهم مجاناً (أرميا 23، 6؛ 51 ، 10). هنا ينبغي أن نسأل أنفسنا: هلْ اعترفنا بخطايانا ليسوع وسلّمناها كلياً؟ هل تخلينا عن شرفنا الموهوم، ومُتنا عن استكبارنا الموروث؟ لا يدعو يسوع إلا الخطاة التائبين إلى ملكوته. وَضّح الرب لنائب الشعب نيقوديموس:"الحقّ الحقّ أقول لك: إن لم يُولد أحد مِن جديد فلا يقدر أن يرى ملكوت الله". وهذا الايضاح يعني لنا، أن العِلم اللاهوتي لا يكفي للإيمان، ولا يعطينا الإستحقاق لدخول الملكوت، ولكنّ التغيير الجذري في أعماقنا، أي الولادة الجديدة الروحية هي التي تفتح أعيننا، حتى نَرى ونُدرك ونَفهم ما هو الملكوت السماوي. وعمّق يسوع إعلانه السابق وقال:"الحقّ، الحقّ أقول لك: إن كان أحد لا يُولد مِن الماء والروح، لا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يوحنا 3، 5).

 

يَدلّ الماء في هذا القول على التوبة عند يوحنا المعمدان، رمزاً للغَسل الإلهي ليُتطهّر الخاطىء مِن جميع خطاياه، ويترك شرّه، وأما الروح فهو روح الله وروح المسيح الذي يَحلّ في المتعمد التائب الذي أخْلى نفسه، ولبس قداسة المسيح وقوته. لذلك يليق بنا أن نمتحن أنفسنا: هل وُلدنا مِن روح المسيح بنعمته ثانياً؟ وإلا لا نتعجب إذا لم نستطع أن نرى الملكوت الإلهي، ولا أن ندخله، إلا إذا تغيّرنا من ذهننا، ونلتمس مِن الربّ هبة الرّوح القدس. قد أتى الملكوت إلينا في شخص يسوع المسيح، وبواسطة كلماته وصلواته وأعماله. هو شريف ويدعو كل إنسان أن يدخل إلى ملكوت نعمته، شرط أن يتوب أولاً وينضمّ إلى صفوف حركة التوبة، التي بدأت بيوحنا المعمدان. لم يقدّم يسوع لأتباعه رواتب عند دخولهم إلى ملكوته. فمَن يَثق بكلمات يسوع كطفل ويؤمن بها، هذا يدخل إلى ملكوت السلام الأبدي كأنّه في حلم.

 

لا يجد الأغنياء فرصة لدخول ملكوت ملك الرحمة بالسهولة، لأنّ يسوع أكّد لهم:"أن مرور جمل مِن ثُقب أبرة أيسر مِن دخول غني إلى ملكوت الله" (متّى 19، 24). فأهل ملكوت السماوات هم تائبون متبرّرون، الذين نالوا الحقّ والإستحقاق لاستلام روح القدس، على أساس الذبيحة الكفّارية مِن مَلكهم عوضاً عنهم. المَلك مات عوضاً عن أتباعه، ليؤهّلهم للدخول في ملكوته. وهذا يتمّ بحلول روح الله فيهم، لأنّ هذا الرّوح هو حياة المَلك، ومحبّته وقوّته. فمَن يؤمن بالمسيح يحيا إلى الأبد، لأن مَلكنا هو ينبوع الحياة وأعلن بأوضح بيان:"أنا هو القيامة والحياة، ومَن آَمَن بي، ولو مات، فسيحيا. وكل مَن كان حياً، وآَمن بي، فلنْ يموت إلى الأبد. أتؤمنين بهذا؟"(يوحنا 11، 25 – 26).  نعترف أن المسيح هو حياتنا، وملكوت الله ينبثق وينمو مِن داخل مَلكه. كما أن حبّة القمح تأتي بحبّات كثيرة، هكذا يغيّرنا المسيح يسوع إلى خدّام محبته، سالكين في الحقّ والطهارة. نتأكّد أن أهل الملكوت الإلهي يتقدّسون بنعمة مَلكهم، فينبغي أن تموت الأنانية والحساسية الزائدة، لكي ينمو فينا "النَحْنُ" في الملكوت.

يُنشىء روح الرب فينا المحبة والفرح والسلام، والتأنّي واللطف والجودة، والإيمان والوداعة والعفّة. (غلاطية 5، 22- 23) يعلّمنا هذا الروح الصلاة المستجابة، ويصرخ فينا:"يا أبا الآب". فالروح يشهد لأرواحنا، أنّنا أولاد الله (رومية 8، 15)"فكلّ الذين ينقادون بِرُوح الله فهم أبناء الله" (رومية 8، 14). أوجد أبونا السماوي لنا ملكوت محبته، وإبنُهُ يقبلنا كأخوته، رغم أنّه ربّنا ومَلكنا. شهد بولس بهذه الحقيقة وكتب "فلستم إذاً بعد غرباء ونزلاء بل رعية مع القديسين، وأهل بيت الله" (أفسس 2، 19). فأهل ملكوته هم متبرّرون مولودون ثانية، أحياء في الروح، مقدّسون، وخُدّام بالنعمة. فهل تخصّهم أنت؟ هل تعيش داخل ملكوتك؟ أو لا تزال خارجاً عنه؟ أو هلْ تحاول أن تقف بِرِجل واحدة في الجنّة ورِجل ثانية في هذه الدنيا؟

المسيحيون حسب طبيعتهم ليسوا أفضل مِن الآخرين، إلا أنّهم نالوا بنعمة يسوع حصّتهم في قداسة الله، ومحبّته وروحه. فأصبحوا بتجدّدهم غرباء في العالم، ولم يشتركوا في الخداع والرشوة والزنى والكذب، ولِموقفهم هذا يرفضونهم ويُبغضونهم. ومَن يشهد بمَلكه يسوع، ويعترف بقوة خلاصه، ينبغي أن يحتمل ويختبر الاضطهاد. يريد الشيطان وأتباعه أن يُبيدوا ملكوت الله ويهلكوها. أما المَلك الأبدي فيَحمي كنيسته أكثر مما يحرص الراعي على خرافه. أكّد يسوع لأتباعه بأن :"ليس أحد يقدر أنْ يخطفها مني" (يوحنا 10، 28) "وأبواب الجحيم لن تقوى على كنيستي" (متّى 16، 18).

 

شريعة ملكوت المسيح

 

أعلن يسوع مَلكنا:"وصية جديدة أعطيكم، أن تحبوا بعضكم بعضاً. كما أحببتكم أنا تُحبّون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حبّ بعضاً لبعض." (يوحنا 13، 34- 35). أفهمنا يسوع بهذا الدستور الجديد لملكوته؟ إِن محبّته الخاصّة هي مقياس لمحبتنا. فهو بذاته شريعتنا! ينبغي أنّ أهل ملكوته يعيشون كما عاش هو لا أكثر ولا أقل. كان الرب الإله يُعلن في العهد القديم:"كونوا قدّيسين، لأنّي أنا قدّوس" (لاويين 11، 45)، "تكونون قدّيسين، لأنّي قدّوس الربّ إلهكم"(لاويين 19، 2). في هاتين الآيتين جعل الله الربّ قداسته الخاصّة مقياساً لحياتنا. كلُّ مَن يدرك هذه الحقيقة في عمقها ينكسر، ويتحطّم مثلما صار مع النبي أشعيا، الذي انكسر أمام قداسة الله وصرخ: "ويل لي، إنّي هلكت، لأنّي إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأنّ عينيّ قد رأتا المَلك ربّ الجنود" (أشعيا 6، 5). وكما أنّ الملاك أتى وطهّر شفتي النبي بجمرة حمراء، هكذا المسيح طهّرنا في العهد الجديد بدمه الثمين، مِن خطايانا العديدة، ووَهَب لنا روحه القدّوس، لنتبعه، ونتغيّر إلى لُطف قداسته. لذلك نرفع أعيننا نحو رئيس إيماننا ومكمله يسوع (عبرانيين 12، 1-2).

جمع يسوع مَلكنا الوصيتين الأساسيتين المذكورتين من العهد القديم وأمرنا:

 

"كُونوا كاملين، كما أنّ أباكم في السماء هو كامل"

(متّى5، 48)

 

مَن يُدرك هذه الوصية يَيأس، لأن ليس أحد كامل كما أنّ الله هو الكامل. لا يمكن أن نطوّر أنفسنا نحو هذا الكمال الإلهي. ورغم ذلك يطلب منا أن نصل إلى كمال الله. فكيف يتمّ هذا الأمر المستحيل؟ الأب الدنيوي يَورث إلى أولاده أخلاقه وصفاته، أي ذاته، التي تتطور فيهم، حتى تستطيع بعض المرات أن تقول:"هذا الصبي يظهر تماماً كأبيه"! وهكذا بطريقة روحيّة يهب الله لنا ذاته في مجيء إبنه إلينا وحلول روحه فينا. فإرثنا الروحي هو كلمات يسوع، ودمه وروحه، التي ورثناها مِن الآب بواسطة إبنه. لهذا الإرث، لنا رجاء، أن نعيش في وصية المسيح عملياً (رومية 8، 29- 30؛ متّى 19، 29؛ 25، 34).

تُعمّق أوامر المسيح الوصايا العشر، التي نالها موسى مِن الربّ، ولكنّ هناك فرق عميق بين شريعة موسى وشريعة المسيح! فالعهد الجديد لا يمنعنا مِن الأعمال الشريرة فحسب، بلْ يَغلب فينا النوايا التي تصدر منها الأعمال السيئة، فلا يمنعنا مِن القتل فحسب بل يمنعنا حتّى مِن الغضب والبُغض بل أيضاً مِن الشهوة. ولم يمنعنا مِن السِحر فقط بل يؤنّب أيضاً ثِقتَنا الناقصة بالله الآب! فلا يُعارض المسيح البخيل والمرابي وحدهم، بل غلبهما بمنع محبة المال مطلقاً. فكبرياؤنا وأستكبارنا تنسحق أمام تواضع مَلكنا. أراد يسوع بإعلان وصاياه الألف، في الأناجيل الأربعة، أن يكشف جذور خطايانا، ويقلعها، ويتغلب عليها، بواسطة قوة محبّة روحه. كان داود وحزقيال يدركان هلاك نفسيهما الموروثة مِن والديهم، واعترفا أن لا يساعدهما إلا خلق جديد لنفسيهما:

 

"قلباً نقيّاً أُخلق فيّ يا الله وروحاً مستقيماً جَدّد في داخلي"

(مزمور 51، 10)

لايَضع مَلكنا الجديد شريعة وفرائض مستحيل تطبيقها تُجاه الله وتُجاه الناس، إنما يشجّعنا أن نثق بأبينا السماوي، ونحبّه مِن كل قلوبنا، ونُكرمه شاكرين، ونسجد له بحياتنا، ونخدمه إلى الأبد. يقودنا الروح القدس إلى أبينا كما يقودنا لنحبّ جميع الناس الصعبين المحيطين بنا، وحتى لأعدائنا:

 

"الله محبة، ومَن يثبت في المحبة يَثبت في  الله والله فيه"

(يوحنا الأولى 4، 16)

 

هذا الوعد يُرشدنا بأن نعظّم الله، ونحمده، ونشهد بخلاصه أمام الجميع، ونساعد المحتاجين. و تستحق حتّى الطبيعة عنايتنا وإكرامنا.

 

خُدّام ملكوت الله

 

كانت تعني سابقاً كلمة "وزير". أنّه يحمل أوزار الآخرين مِن شعبه، ويتعب مِن أجل إصلاحه، ويضع الوزرة حوله، رمزاً لخدمته في أوساط محيطه. هكذا بالمعنى الروحي رَبّى يسوع أتباعه، أن لا يكونوا أسياداً، بل خدّاماً، كما أنه هو أعتبر نفسه خادماً فقال:

 

"ان إبن الإنسان، لم يأتِ ليُخدَم، بل ليَخدُم، وليبذل نفسه فـِدية عن كثيرين"

(متّى 20، 28)

 

وبهذا المعنى وزراء المسيح ليسوا أسياداً، بل خـُداماً، كما أنّ بولس جعل نفسه عبداً للمسيح، ولجميع الناس. ولهذا اعترف يوحنا في بدء كتابه عن رؤيا المسيح أن يسوع "أحبّنا، وقد غسلنا مِن خطايانا بدمه، وجعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه" (رؤيا يوحنا 1، 5- 6). تَدْفعنا محبّة المسيح أنْ نتحمّل المسؤولية عن زملائنا. قد دعانا لنخدمه خدمات كهنوتية في ملكوته. لذلك أهّلنا بالإمتياز، لنصلّي عن الآخرين، ونشهد لهم عن حقيقة الملكوت، ولنخدمهم في حاجاتهم، ونُعزّيهم في أحزانِهم، وذلك في المدارس والكنائس والعائلات والبيوت في حارتنا وشعبنا وفي كلّ الأرض. ولنمتحن أنفسنا، ونسأل يسوع: مَن هم الذين وضعهم على قلوبنا كأمانة، ونتكهن لأجلهم، طالبين أنّه يجعلنا أمناء في واجبنا، ولا نَكِلّ في ابتهالاتنا لأجل أحبائنا، لذلك نصلّي:

 

ليأتِ ملكوتك، عندهم وعندنا. لتكن مشيئتك كما في السماء، عندهم وعندنا. خبْزنا كفافنا أعطنا جميعنا اليوم.

واغفر لنا جميعاً ذنوبنا وساعدنا حتّى نغفر لجميع المذنبين إلينا. ولا تدخلنا جميعاً إلى التجربة، لكن نجّنا جميعاً مِن مَكر الشيطان وكِذبه،

لانّ لك المُلك والقوّة والمجد. لقد أشركتنا بها منعماً بها علينا إلى الأبد.آمين.

 

تُعلّمنا رؤيا يوحنا أن نشكر الربّ مسبقاً، لأجل إتمام انتصاره، لأنّ ملكوته يأتي، ولا أحد يقدر أنْ يمنعه مِن وصوله. وتكون مشيئته باستمرار، كما أنّ الأصوات في السماء تشهد مُسبقاً، ومُتأكداً مِن الإنتصار:"لقد صارت ممالك العالم لربّنا ومسيحنا، فسيملك إلى أبد الآبدين" (رؤيا يوحنا 11، 15). إن يسوع مَلك المُلوك، وربّ الأرباب، بتواضعه وانهياره المطلق على الصليب، غلب التكبّر في العالم، والعظمة الموهومة في المساكين. وهو يشجّعنا أن نتبعه ونتواضع جداً، ونطلب ملكوته، ونمو بِرّه أولاً، ولا نتمسّك بمشاكلنا الشخصية أولاً. فَمَن يخدمه طوعاً يخدمه أيضاً، ويساعده في الأمور اليومية أكثر مما نطلب. مَن يثق به يرى عجائبه في مجيء ملكوته، ويختبر عونه في صعوبات خدماته.

 

ديّان الملكوت الآتي

 

فتح يسوع أعيننا لنرى المستقبل، ولا نفزع. فأعلن مسبقاً أنه سيأتي بمجد أبيه ومجده الخاصّ، ليدين الأحياء والأموات. قال بأوضح بيان ماذا سيحدث في يوم الدين الآتي: "ومتى جاء ابن الإنسان في مجده، وجميع الملائكة القدّيسين معه، فحينئذٍ يجلس على كرسي مجده. ويجتمع أمامه جميع الشعوب، فيميّز بعضهم مِن بعض، كما يميّز الراعي الخراف مِن الجداء، فيُقيم الخراف عن يمينه والجداء عن اليسار. ثم يقول المَلك للذين عن يمينه: تعالَوا يا مباركي أبي، رِثوا الملكوت المُعدّ لكم منذ تأسيس العالم. لأنّي جُعت فأطعمتموني. عطشت فسقيتموني. كنت غريباً فآويتموني. عرياناً فكسوتمونّي. مريضاً فزرتمونّي. محبوساً فأتيتم إليَّ. فيجيبه الأبرار حينئذٍ: يا ربّ، متى رأيناك جائعاً فأطعمناك، أو عطشاناً فسقيناك؟ ومتى رأيناك غريباً فآويناك، أو عرياناً فكسوناك؟ ومتى رأيناك مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك؟

 

فيُجيب الملك: الحقّ أقول لكم: بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم.

 

ثم يقول أيضاً للذين عن اليسار: اذهبوا عني يا ملاعين، إلى النار الأبديّة المعدّة لإبليس وملائكته، لأنّي جعت فلم تطعمونّي. عطشت فلم تسقونّي. كنت غريباً فلم تأوونّي. عرياناً فلم تكسونّي. مريضاً ومحبوساً فلم تزورونّي.

 

حينئذٍ يجيبونه هم أيضاً: يا رب، متى رأيناك جائعاً أو عطشاناً أو غريباً أو عرياناً أو مريضاً أو محبوساً ولم نخدمك؟

 

فيجيبهم: الحقّ أقول لكم: بما أنكم لم تفعلوه بأحد هؤلاء الأصاغر، فبي لم تفعلوا. فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياةٍ أبدية" (متّى25،31-46).

 

مَن يتعمّق في كلمات الديّان الأزلي هذه يفزع، ويتعجب ويرتعب، ويسأل: هل الربّ لا يعتبر شهاداتي العالية ورُتبي في المجتمع، وأملاكي وتعبّدي وتقواي شيئاً مهماً؟ وهلْ كلّ ما يكون عظيماً في الدنيا لا شيء في الآخرة؟ إلا أنّه يريد الرب، أن نرى   ونخدم المساكين، ونحبّ المعذّبين، وحتّى المذنبين في السجون. فما هذا الإنقلاب الإجتماعي؟ هل نعيش جميعاً في الخط المؤدي إلى الجحيم، وأخطأنا الهدف السماوي؟  ويظهر أن أتباع المسيح كانوا يخدمون المحتاجين والعطشى والجياع إلى البِرّ والمحتقرين والمرفوضين، ولم يلاحظوا أنهم عملوا عملاً خاصاً، بل اعتبروا ذلك مِن طبيعتهم وواجبهم، فلم يستطيعوا إلا أن يساعدوا بقدر الإمكان، واهتمامهم ليس بأنفسهم، ولا بعشيرتهم، بل بالذين ساروا في الظلمة والإحتقار. قد خلق المسيح في أتباعه محبة، وبصيرة حتّى يروا المحتاجين، ويتحنّنوا عليهم، ويكملوا معهم الخدمة بقدر إمكانياتهم. قد تغيّرت فيهم النيّة. فلا ينمو فيهم ما يساعدهم شخصّياً، بل شعروا بالمرفوضين مِن المجتمع، ووقفوا معهم بدون كلمات كثيرة.

 

أمّا المحكوم عليهم مِن غضب الله، فعاشوا بالبحبوحة أو بالفقر، ولكن لا يفكرون إلا بأنفسهم، ولا يهتمّون إلا بذاتهم ومَن يخصّهم فقط. طلبوا الإتفاق في المجتمع والإكرام والإحترام والوظائف العليا. ما رأوا المساكين، ولا شعروا بالمستعطين، بل عاشوا فوقهم وعلى أتعابهم، فيسقطون في نار جهنّم حتماً، لأنّ المسيح لا يطلب إلا محبة حقيقية، واهتمام روحي، فأقام الموتى وشفى المرضى. يبقى هناك سؤال مُحرج: هل الصالحون كانوا دائماً صالحين، وما أخطأوا أخطاءً ملموسة، وتقسّوا بقلوبهم تُجاه الطالبين؟ وبنفس الوقت، هلْ المرفوضون الساقطون إلى الجحيم، أليسوا لم يعملوا أي صلاح، ولم يقدموا عطايا وهدايا، ولم يصلّوا ويحجّوا وكافحوا في سبيل الله؟ أليس الصالحون خطاة، والخطاة أيضاً صالحين؟ نعم، إلا أن المحبّين سلموا خطاياهم لحمل الله، حتّى غُفرت خطاياهم كُلياً، وطُهّرت ضمائرهم، ونُقَّت أذهانهم كاملاً، حتى فكّروا أفكار مَلكهم تلقائياً. لذلك أصبحوا مقبولين، حتّى لا يبقى فيهم إلا ما أنشأ الروح القدس مِن الأعمال الصالحة، لأنّهم تبرّروا بدم حمل الله كاملاً ً، فلم يبق في حياتهم إلا ما أنشأ الرّوح القدس فيهم. أما قُساة القلب فخدموا بعض المساكين لصالح حسابِهم في السماء، وفكّروا أنْ يجمعوا أعمالاً مقبولة في ميزان الله، حتّى ترجح كفّة أعمالهم الصالحة. وفكّروا بدون فائدة أنّ الحسنات تُذهب السيئات. ما فهموا عمق فساد أنفسهم، فما آمنوا بدم يسوع المسيح، ولم يتطهّروا بنعمته، فلا يبقى إلا أعمال أنانيتهم. فيسقطون سقوطاً عظيماً، لأنّهم لم يفتحوا قلوبَهم لمَلكهم، ولم يتغيّروا إلى خدّام، كما كان ربّهم خادماً.

 

هل تريد أن تصبح خادماً في ملكوت ربك؟

 

انتبه! مَلكك يدعوك ويقول: اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، فتنحلّ مشاكل حياتك بطريقة ما. ابتدأ أن تهتم بالله وملكوته أولاً! فكّر جيداً: ماذا يعني هذا الأمر الإلهي لك؟ لا تكن غبياً راكضاً وراء الغنى الفاني، والمجد الدنيوي الباطل، واللهو السطحي، بل اطلب الباب المؤدّي إلى ملكوت الله، وادخل فيها. هو مفتوح على مصراعيه لأجلك. إنما ادخلها حقاً، ولا تتأخّر، ولا تتردّد. ادخل إليها الآن! لا تسمح للضيقات في عائلتك، والمشاكل في مهنتك، أن تشغلك وتملأك، بل تأمّل ما ينتظره المَلك منك اليوم. اسأل نفسك: ماذا تستطيع أن تفعل لأجله؟

 

وما هي مشيئته في حياتك؟

 

اطلب مِن الربّ يسوع الجواب على هذا السؤال في صلاتك، فيجيبك يقيناً. إنْ لم تجد القوة والحكمة والمواظبة في نفسك، لتعمل وتتمّم إرادة ملكك، فاطلب منه أنْ يباركك، ويقدّسك، ويقوّيك، لتستطيع أن تتمّم أوامره، أو تحقق إرادته. مَلكك يرحمك، وكل الطالبين إليه. لا تتكّل على قدرتك الخاصّة، ولا تؤمن بمواهبك المحدودة، بل امتدّ نحو ينابيع الملكوت الأبدي. الإمكانيات في مملكة أبيك السماوي غير محدودة، ولا تقدر أن تدرك عظمته. كلّ ما عنده يمنحه لخدّامه ليستطيعوا أنْ يكمّلوا خِطة خلاصه في محيطهم. إنْ أدركتَ، أنّك لا تكون أهلاً أو مستحقاً لتخدم الله، وإنّ فهمتَ أن النجاسة والغِشّ والإلتواء لا تصالح ملكوت الله، وتخجل أمامه، فأنت الشخص المختار لله القدّوس! هو مستعدّ أن يطهّرك، ويبرّرك، ويقدّسك إلى التمام. ويمنحك لِباس البيضْ الطاهر، المختص لأهل ملكوته. إن الخُطاة التائبين، الذين يثقون بِملكهم ويمارسون إرادته، سيرثون ملكوته حسب قوله:

 

"طوبى للمساكين بالروح، لانَّ لهم ملكوت السماوات"

(متّى 5،3)