كلمـــات المسيـــح السبع على الصليب

يـــس منصور

 

فهرس الكلمات السبع

 

مقدمة

 

الكلمة الأول: " يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" ( لوقا 23: 34).

 

الكلمة الثانية: "الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس"( لوقا 23: 43).

 

الكلمة الثالثة: قال لأمه: " يا امرأة، هوذا ابنك" ثم قال للتلميذ: " هوذا أمك" ( يوحنا 19- 26و 27).

 

الكلمة الرابعة : " إلهي إلهي، لماذا تركتني؟" ( متى 27: 46).

 

الكلمة الخامسة : " أنا عطشان" (يوحنا 19: 28).

 

الكلمة السادسة : " قد أُكمِل" ( يوحنا 19: 30).

 

الكلمة السابعة : " يا أبتاه، في يديك أستودع روحي" ( لوقا 23: 46).

 

المسابقة.

 

مقدمة

أيّد الوجدان أنه لا يوجد في هذا العالم حقٌ صراح أكثر من الله. وتبيّن أنه لا يوجد هادٍ إلى الله غير المسيح لأنه صورة الله ورسم جوهره. وأعظم رسالةٍ للمسيح هي الصليب، وأن ما قاله المسيح من على الصليب هو توضيح عظيم لرسالته المباركة. وبديهي أن الكلمات السبع التي تحدث بها وهو على الصليب، عن معضلات الحياة وما وراء الحياة، هي فصل الخطاب، وعندها مقطع الحق. ومن غير المسيح يمكن أن ينطق هو مثل الموقف الذي كان فيه؟

 

إن الكلمات السبع على الصليب هي البرهان الناصع على أن الشخص المعلَّق على الصليب هو المسيح نفسه. فلا يمكن لسواه أن يقولها، ولا يمكن لشبيهٍ به، مهما يكن، أن يقولها.

 

ولذلك رأيت خدمةً لهذا الحق المطلق أن أقضي أيامي في تأمل هذه الكلمات، التي ليس لحسنها نهاية. وكل ما أصبو إليه هو أن يبلغ القراء إلى الطريق ويحظوا بالحق ويستمتعوا بالحياة التي في المسيح. وكلنا يقين أنه متى استقر حق المسيح في النفوس كان له الأثر الفعال في تجديد الأفراد والشعوب. ومتى سار الناس على نور الصليب الباهر، في خطوات التواضع والحق والرحمة سارت سفينتهم بأمنٍ في الدنيا والآخرة.

 

سدّد الله خطانا إلى أسباب السعادة ومناهل الهناءة والسلام.

 

المؤلف

 

 

الكلمة الأولى

" يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" ( لوقا 23: 34).

 

لنتقدم بكل اتضاع إلى الجلجثة، ولننظر بخشوع إلى المصلوب فنرى ما لم يخطر على بال! لقد عصب أعداؤه رأسه بأكليل الشوك، ولكن ما أرهب الجلال الذي على جبينه! علّقوه على الصليب فكان الصليب رايةً لإعلان مجده الأدبي والروحي. صرخوا للحاكم قائلين: " اصلبه" أما هو فصرخ إلى الله قائلاً : " اغفر لهم".

 

يا لها من كلمة!

إنها كلمة محبةٍ في ضوضاء البغضة، وكلمة هدوءٍ في أعاصير الألم، وكلمة صلاحٍ في أروع مظاهر الفجور، وكلمة ثقةٍ، لأن المسيح لم يُمت بيد أعدائه بل مات عنهم. وهي كلمة محتضرٍ في سلطانه مفاتيح الحياة، وكلمة متّهمٍ يُصدر حكم العفو الملكي، وكلمة ختم عملي لما علَّم به من الصفح عن السيئات، وكلمة إنجازٍ لما هو مكتوبٌ " إنه شفع في المذنبين" ( اشعياء 53: 12)، وكلمة عظمة واقتدار في ثياب الضِّعة والضعف.

كان عظيماً يوم تكلم بالقوة في سيناء، حيث تقدَّمته الرعود وحفّ به الضياء. ولكنه صار أعظم، يوم تكلم بالحب في الجلجثة وهو مسمَّرٌ على الصليب مثخنٌ بالجراح. فعظيمٌ هو دينُ العدل الخالي من العفو، ولكن أعظم هو دينُ الرحمة الغافرة، دين " الدم الذي يتكلم أفضل من هابيل" ( عبرانيين 12: 23).

 

لقد رُفع الصليب كمذبحٍ، وعُلّق عليه المسيح كذبيحة. وكم نتعجب من أول كلمةٍ دشَّن المسيح بها هذا المقام الكهنوتي العظيم. وتعجُّبنا من طلبه الغفران لأعدائه لا يقِلّ عن تعجُّبنا من الحُجّة التي دعم بها هذا الطلب. فلنتأمل في الأمرين:

 

1- ما أجمل وأعجب الطلب الذي رفعه المسيح للآب عن أعدائه: " اغفر لهم يا أبتاه". إنه طلب نعمةٍ فياضة لغير المستحقين، الذين قابلوا المحسن البار مقابلة الوحوش الضارية. وهو طلب حكمة فائقة تتلمَّس العذر للجُناة من محيط وظروف الجناية. وهو طلبٌ عظيم للغاية، لأنه لا يتضمن طلب مالٍ أو حرية سياسية أو غير ذلك، بل يطلب أعظم شيء في الوجود: الغفران الذي يؤهل أصحابه للاشتراك في الأمجاد السماوية!

إنه طلبٌ حماسيٌ، لأنه لم يتقدم بعد قرن أو سنة أو يوم، بل تقدم في حال وقوع الذنب نفسه! فهو طلبٌ من طبيعةٍ إلهية، وضع كمَثَلٍ أعلى لتنسج البشرية المتعصبة خيوط الصفح على منواله. فإن المسيح لم يمت ليكون فقط كفارة عن خطايانا، بل مات أيضاً ليترك لنا مثالاً نقتفي أثر خطواته. فلنقف صامتين خاشعين أمام المسيح وهو مخضّب بدمائه، رابط الجأش، يرِقّ لأعدائه ويصفح عنهم الصفح كله، لنرى هل ارتفعنا إلى شرف التمثُّل به في الصفح عن أعدائنا؟ ليت منظر الصليب يذيب قلب الإنسان المتحجّر على أخيه الإنسان، فلا يبقى فينا إلا الصفح والمحبة.

ولكن ليكن صفحنا ليس عن بلادةٍ وجمود، كمن لا تؤلمه غضاضةٌ أو يمضُّه هوان. وليس عن سياسةٍ ودهاء، كمن يتحيّن الفرص للانتقام. وليس عن تهذيبٍ إنساني، حباً للظهور بمظهرٍ حضاري. وليس عن استسلامٍ أعمى ينشأ عنه الضرر. وليس عن اضطرارٍ نتيجة الضعف الذي لا يدفع.

ولكن ليكن صفحنا عن رقةٍ في الشعور، مجانياً إطاعة لأمر الله، ومحبةً لخير المذنب، وصفحاً على مثال السيد المسيح وأتباعه الأمناء، كما حدث عندما كان اليهود يرجمون استفانوس وهو يصلي: " يا رب لا تُقِم لهم هذه الخطية"( أعمال 7: 60).

 

هزأ ملكٌ وثني بمسيحي تحت آلة التعذيب بين حي وميت. وقال له: " أخبرني يا تابع المسيح، ما هو أعظم عمل عمله لك المسيح". فأجاب: " أعطاني القوة لأسامحك رغم ما عاملتني به من قسوة مخيفة!" وقيل لرجلٍ: " لديك فرصة سانحة للانتقام من عدوّك". فأجاب: " نعم إنها فرصة! ولكن لا لسَلب كرامته أو ثروته أو حياته، بل لسَلب ما يملك من مَيْل رديء!" وشهد لصٌ أمام محكمة أنه صوّب بندقيته على عدوٍ له وأطلق النار. ودنا من النافذة ليرى قتيله، فإذا به يراه سالماً جاثياً على ركبتيه يطلب الرحمة لطالب نفسه. فارتعب اللص ولم يقدر أن يُعيد إطلاق النار، وهرب مذعوراً، ولم يعرف أين هو حتى وقع في يد الشرطة! وهجم الصينيون في حرب البوكسر على أحد المرسلين ليقتلوه، فطلب منهم إمهاله حتى يكتب رسالةً لزوجته يُعرّفها باستشهاده، ويحضّها على أن ترسل ابنه إلى الصين بعد أن يُتم دراسته ليُكمل توصيل بُشرى الإنجيل لأهل الصين. ثم قُتل وطُرح للكلاب. ولكن روحه المتسامحة النبيلة أثرّت في أحد الجنود فآمن وصار قائداً مسيحياً مشهوراً.

 

لقد أثّرت صلاة المسيح الشفاعية على كثيرٍ من البشر في كل العصور والأمصار، فتحولوا من الانتقام إلى التضحية، ومن الترفُّع إلى الخدمة والإخاء.

 

2- وبما أن الشفقة والإخلاص هما عنوان روح المسيح، لذلك دعم طلبه بحجة بديعة ساطعة: " لأنهم لا يعملون ماذا يفعلون!". فهي حجةٌ تدل على براعة المحامي، لأن الجناية ثابتةٌ على الجناة. ومع ذلك فالمجني عليه يرى بعين الرحمة أنهم أساءوا إليه وهم يجهلون حقيقة شخصه، ويتدرج من ذلك إلى التماس العذر لهم، معتبراً أن هناك تفاوتاً في أنواع الجرائم، فليس الذي يخطئ بجهلٍ كالذي يتعمد إيقاع الخطأ.

كان بنو إسرائيل حكماء في أشياء كثيرة، ولكنهم من جهة المسيح كانوا في جهلٍ مطبق، فقد جهلوا مجده الإلهي بسبب ما رأوا فيه من مظاهر التواضع والضعف الإنساني و " لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" ( 1كورنثوس 2: 8). وجهلوا النبوات عنه لإهمالهم دراسة كتبهم المقدسة بقلب مفتوح، ولسماعهم تفاسير معلّميهم المغلوطة. ولو أنهم فتشوا كتبهم لوجدوا فيها حياةً أبدية، لأنها تشهد للمسيح ( يوحنا 5: 39). وجهل اليهود حقيقة دعوى المسيح أنه المخلِّص المنتظَر بسبب ما رأوه من عداوة كهنتهم ورؤسائهم له وتحريضهم على قتله كثائر مجدف. وجهلوا مجد صلاحه وبرّه لأن ظلمة الخطية أعمت عيونهم، فكانوا كمريضٍ محموم يهزأ بطبيبه.

وبما أن الجهل يعقبه الخطر الداهم، كالخطر الذي يصيب رجلاً جاهلاً يلعب بالنار في مخزن البارود، فقد رأى المسيح ما سيحل باليهود عقاباً لجهلهم فطلب رفع هذا العقاب.

ومع أن الناس اليوم تقدموا في العلوم ونبغوا في الاختراعات والاكتشافات واتسعت دائرة معرفتهم، إلا أن نظرهم لا يزال قصيراً من جهة الخطية، فهم يستخفون بها ويرونها أقل بكثير مما هي. فمنهم من يخطئ ويستر خطأه بالقول إن نيته كانت سليمة. ومنهم من يخطئ ويتعلل بتفسيرات سخيفة مغلوطة لبعض آيات الكتاب المقدس، ويجعل من هذه التفسيرات عكاكيز يسير عليها في طريق الخطأ. ومنهم من يخطئ وهو يتّخذ ضعف الطبيعة البشرية وِسادة يستريح عليها. ومنهم من يخطئ وهو يقارن بينه وبين غيره من الخطاة ويجعل من هذه المقارنة منظاراً يصغّر به خطاياه الخاصة. ومنهم من يخطئ لتأخُّر القصاص عنه فلا يزيد تفكيره عن تفكير النعامة التي إذا رأت الصياد خبأت رأسها في الرمل، وهي تظن أنها في أمان، مع أنها في قلب الخطر.

ولا شك أن الخطية شرٌ أكثر مما يمكن لبشرٍ أن يتصوَّر! أليست هي التي تنبع من القلب النجس الذي يخدع الإنسان كمخدّر لا يُدريه شرَّ ما يفعله؟! أليست هي خطأ يُرتكب ضد قداسة الله وشريعته؟ أليست هي التي لم يكن لها دواء إلا كفارة الصليب؟ أليست هي التي أوجدت عذابات الجحيم الأبدية؟ أليست هي التي تُلقي في أتون نار الضمير المحمَّى سبعة أضعاف؟ أليست هي التي تنغّص الحياة وتجلب شتى البلايا علينا وعلى مَن هم حولنا؟

فمن يعمل الخطية بجهلٍ هو كمن يضع يديه على عينيه ويسير إلى حفرة عميقة وهاوية سحيقة.

                        

****

 

ليت صلاة المسيح الشفاعية تقرع كأجراس عالية في آذاننا ليكون لنا، على مثال المسيح، قصدٌ روحي نحو العالم ومطمع كبير غير محدود لخلاص الجميع حتى ألدّ أعدائنا وأشد مقاومينا، ولنرحب بغير المسيحيين ترحيباً عاماً، فنقوم بأعمالٍ نشيطة جدية، وندعوهم لنوال الخلاص المشترك.

ألم يتأثر المسيحيون الأولون بمثال المسيح، فكانوا يسيرون صفوفاً صفوفاً يرنمون بخشوع إلى السجن وإلى أفواه الأسود، وهم يرون السماء أمامهم ويطلبون الرحمة لأعدائهم؟

يقول الجهلاء إن الجو الآن غير ملائم لتبشير الملايين المحيطين بنا. ولكن هؤلاء الملايين يخلقون من حولنا جواً مملوءاً بالعداوة والفجور أكثر مما عمل اليهود مع المسيح. والمسيح يطالبنا أن نقوم في الحال ونعمل بكل نشاط لنقودهم للخلاص. فلنقُم ونكمل بكرازتنا نقائص شدائد المسيح (كولوسي 1: 24) فيكون لنا من عمل المسيح وسعيه لخلاص العالم أسوة تُقتفى ومثالاً يُحتذى.

 

ثم أرجو أن ينتبه الذين يعيشون في خطاياهم إلى التحذير المخيف المصرَّح به في هذه الصلاة. ألم يلتمس المسيح عذراً للذين يخطئون بجهالة؟ إذاً مَن يخطئون ضد النور بعد أن أخذوا معرفة الحق لا يبقى لهم عذرٌ لعفوٍ أو سببٌ لاستعطاف. والخطية درجات، وحذار أن يصلوا إلى نقطةٍ يبطل فيها عمل المسيح النيابي، إذ توجد خطية ليست للموت وتوجد خطية للموت لا رحمة لها ( 1يوحنا 5: 16).

 

واعلموا أن الصليب هو أظلم جناية ارتكبها العالم، فهو يكشف أصول الخطية. فمن شاء أن يقبل كفارة الصليب فهو يكرم ابن الله، ومن تكبّر ورفض كفارة الصليب فقد رفض ابن الله وزاد شراً عن قاتليه، فلا يُحسب دم المسيح له بل عليه.

 

الكلمة الثانية

" الحق أقول لك: إنك اليوم تكون معي في الفردوس". ( لوقا 23: 43).

إنها كلمة تروِّع الفؤاد عجباً وتملك الحواس طرباً، في كلمة الملك المنتصر في الموقعة الفاصلة! لقد استضعفوه بالصليب، ولكنه انتصر بالمحبة! وأحصوه مع أثمة، فأحصى الأثمة في بره! وجذبوه للموت فأحيا المائتين! وجعلوه بين اللصوص فسرق القلوب للحق! وأذاقوه الألم فصار ألمه فداءً! وقدموا له الشوك تاجاً فقدم لهم الفردوس مقاماً! وجعلوا الصليب مِعولاً لهدم دعواه فاتّخذه سُلّماً يبني عليه ملكوته!

كان رؤساء اليهود حسودين سقيمي الفهم فاتهموه لدى الحكومة الرومانية أنه ثائر ينادي بنفسه ملكاً ضد قيصر، وبهذه العلة سلطوا عليه بأس انتقامهم. ولم يكفهم أن يعذبوا جسده بالصليب حتى أحضروا معه لصين ليُصلبا على جانبيه تنكيلاً به، فتتألم نفسه وتنكسر من العار. وكان المشاهدون لهذا المنظر من يهود ورومان يستهزئون بهذا الملك الذي لا يقوى على تخليص نفسه من الصليب. ودفع هذا المصلوبين الثلاثة إلى تبادل الحديث.

 

أما اللص الأول فشاطر الجمهور آراءهم، وسأل على سبيل الاستهزاء: " إن كنت أنت المسيح، فخلص نفسك وإيانا". فانتهره زميله قائلاً: " أوَلاَ أنت تخاف الله إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه! أما نحن فبعدلٍ ننال استحقاق ما فعلنا، وأما هذا فلم يفعل شيئاً ليس في محله". ثم بإدراكٍ دقيق لمقام المسيح، وشعورٍ صادق بالندم على ما سبق، وبروحٍ تنزع عن الفناء إلى البقاء قال للمسيح بكل اتضاع: " اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك". فأجابه المسيح: " الحق أقول لك، إنك اليوم تكون معي في الفردوس".

 

كان اللص الأول في طريق الموت وقلبه لا يذوب، كأنه قدّ من صخر. أما اللص الآخر فشعر أنه في موقفٍ حرج إذ حضرته الوفاة، فرأى أن ينتهز الفرصة ويُعِدّ للمستقبل عُدَّته.

 

وانصرف تفكير اللص الأول إلى انتهاء حياته، وودَّ لو يعود إلى الحياة الأرضية ويشاطر بسهم في ملكوت زمني، فخاب رجاؤه وطاش سهمه. أما اللص الآخر فتحوَّل شوقاً إلى العالم الآخر، ورجا أن يكون له أقل نصيبٍ في دائرة ملكوت السماء، فبلغ ما في نفسه وتحققت آماله.

كان اللص الأول على قيد شبرٍ من المخلص ومات هالكاً، لأنه بمحض إرادته أصرّ على عناده ومضى في غلوائه واتخذ اليهود أسوته. وكان اللص الآخر على مقربةٍ من المخلص فنال خلاصاً لأنه خشي الله وخضع لمشيئته، وآمن بالمسيح واتكل على رحمته.

كان اللص التائب مسمَّراً على الصليب فلم يبق فيه حراً إلا قلبه ولسانه، فآمن بقلبه واعترف بلسانه، فأجزل له المسيح العطاء بقوله: " الحق أقول لك أنك اليوم تكون معي في الفردوس".

 

وإننا نجد في هذه الكلمة السامية أربعة أمور هامة:

 

1- تأكيد عظيم : " الحق أقول لك".

قدَّم المسيح في وعده للص التائب عهداً مؤكداً بقوله: " الحق أقول لك" وهي العبارة التي استعملها مكان القسم، لينفض عن قلبه غبار الشك الذي قد يتسرَّب إلى الأذهان، نظراً للضعف الظاهري الذي بدا على مُقدِّم الوعد، وعدم استحقاق اللص الموعود، ولعظمة الوعد الذي يقدمه المسيح.

فالواعِد، كما هو ظاهر للعيان، مصلوبٌ لا يبدو قادراً على مدّ يد المساعدة لنفسه، فكيف يستطيع أن يساعد غيره!؟ إنه لا يملك إلا تاج الشوك، فمِن أين له تاج المُلك؟ وهو معلق على خشبة، فمِن أين له العرش؟ وهو متروك من الكل، فمِن أين له رعية؟ وها الموت قابضٌ عليه، فمتى يؤسس مملكته؟ إن علامات النهاية تظهر عليه، فكيف يكون أمير الحياة؟ يداه مسمّرتان، فكيف يملك مفاتيح الخلود؟ وهو في عُرف شريعة موسى ملعون، فمن أين له البركة للمجرمين؟

ولكن وراء كل هذه الأسئلة نجد في جواب المسيح للص يقيناً وتأكيداً يشف عن مجده الإلهي، فهو الذي تأنَّس وقبل أن يتألم عن أعدائه، حتى أن كل من يلقي عليه رجاءه يقبل منه توبته، ويمنحه السعادة في مملكة السماء.

وأما الموعود فبديهي أنه عديم الاستحقاق. أليس هو لصاً مجرماً ذاهباً إلى الموت، وليس له فرصة ليعمل خيراً؟ أليس ماضيه مليئاً بالشراهة التي تستبيح مال الغير، والقسوة التي تلغ دماء الناس، والكذب الذي يتستّر على الجريمة، والانحطاط الروحي الذي يسوقه للجري وراء المادة؟ ألم يعبث بالنظام الاجتماعي، ويثر الفتن التي تؤدي بالبلاد إلى الخراب؟ ولا زال وهو على آلة الإعدام ثائراً يمتلئ فمه بالتجديف؟! فأنَّى لهذا أن يصعد تواً إلى السماء ويرقى إلى قمة المجد؟

 

ولكن مع كل هذا نجد في جواب المسيح للص عهداً أكيداً حتى لا تعترضه شُبهة يأس أو يضعف في أمثاله الرجاء. وليس في الوعد لإصدار عفو حكومي عنه، أو إطالة عمره، أو تخليد ذكره، أو منحه ثروة. بل هو وعدٌ بمنح اللص التائب فوق ما تتصوَّره العقول! إنه يعده بما لم ترَ عين ولم تسمع به أذن أو يخطر على قلب بشر. لقد وعده بالدخول إلى الفردوس حيث عرش الله! ولما كان هذا حلماً بعيداً أعلى من السموات، وليس في طاقة البشر إعطاؤه أو نواله، قال له مؤكداً بعبارة " الحق أقول لك" حتى يبقى الوعد فوق ظل الشبهات. فـ "السماء والأرض تزولان ولكن كلام المسيح لا يزول"  ( متى 24: 35).

 

2- وعدٌ عاجل: "اليوم"

" اليوم" يا للنعمة الغنية! لم يقُل له: يوم الدين، ولا بعد حقبة من الدهر، بل: " اليوم"! فوراً، وفي الحال.

وبهذا الوعد الكريم نقل المسيح اللص التائب من آلام الصليب إلى أمجاد الفردوس! ومن حصار المسامير إلى فسيح الحرية! ومن التعلق على خشبة إلى التفيّؤ بظلال النعيم! ومن هزء الساخرين إلى موسيقى الملائكة! ومن قسوة البشر التي تكسر عظامه إلى تعزيات الله التي تجبر نفسه.

أفليس هذا وعداً يجعل البِشْر يلمع في عينيه والسرور يتدفق من وجهه ولو أظله الموت؟

" اليوم". ما أعظم ما للإيمان من اقتدار! لم يكن اللص مؤمناً قبل اليوم، وليست له فرصةٌ للعمل بعد اليوم. ولكن بالإيمان الحالي نال البركة في الحال، فتحوَّل من باب الجحيم إلى باب السماء! في الصباح كان يسير مُجدفاً، وفي المساء كان يشترك مع جوقة الملائكة مرنماً. في الصباح كان يُساق كمجرم، وفي المساء أخذ يسير في طليعة الأبكار. بادر بالتوبة، فلم يبطئ المسيح عنه بالصفح. شهد للمسيح، فلم يستحِ المسيح أن يشهد له. خدم المسيح بكلمات محبة قليلة، فأعطاه المسيح ثقل مجدٍ وكرامة. طلب أن يذكره المسيح في المستقبل البعيد، فوجد في مخزن النعمة جواباً قريباً أسرع مما طلب. أتمّ شروط الخلاص في وقت وجيز فمتّعه المسيح بكل نتائج الخلاص أبد الدهر.

" اليوم". ما أعظم ما للكفارة من نتائج سريعة! فقد قال المسيح: " وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليّ الجميع" (يوحنا 12: 32) فكان اللص من أول الجميع، ومن باكورة القطاف. فها دماء الفدية تقطر، واللص يُعتَق من عبوديته! وينابيع الخلاص تتفجَّر، واللص يَطهُر من خطاياه! الفادي يصل إلى الدرك الأسفل من العار، واللص يسمو إلى أوج الشرف!

كان الميثاق لآدم في الجنة: " يوم تأكل منها موتاً تموت" (تكوين2: 17). وأما ميثاق اللص في الجلجثة فكان: " اليوم تكون معي في الفردوس". هذا هو يوم الحياة المجانية " اليوم الذي صنعه الرب نبتهج ونفرح فيه" ( مزمور 118: 24).

 

3- شركةٌ مجيدة: " تكون معي"

نزل المسيح إلى مستوانا ليرفعنا إلى مستواه! فاسمه المحبوب " عمانوئيل" معناه " الله معنا". وبالفداء الذي عمله لأجلنا جعلنا في معيَّته دائماً، فصَلَبنا معه، وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات، وسيُحضِرنا معه، وسنملك معه. وبالإجماع وهبنا ويهبنا معه كل شيء.

عاش المسيح مع الخطاة، ومات بين الخطاة، ومن الخطاة أراد أن يستصحب لصاً تائباً يرجع به إلى السماء، فيكون معه كصديقٍ يريه أمجاده، فقد صلى: " أيها الآب، أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم" ( يوحنا 17: 24). وأراد المسيح للص التائب أن يكون معه كأخٍ يشاركه طبيعة القداسة والمجد. وبما أننا أبناء فنحن ورثة، ورثة الله ووراثون مع المسيح (رومية 8: 17).

وأراده المسيح أن يكون معه كزميل في الانتصار، يحقّق له وعده: " من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبتُ أنا وجلست مع أبي في عرشه" (رؤيا 3: 21). وأراده أن يكون معه كخادم يعطيه مكافأته، فيتحقق الوعد الصادق: " إن كان أحدٌ يخدمني فليتبعني، وحيث أكون أنا هناك أيضاً يكون خادمي. وإن كان أحدٌ يخدمني يكرمه الآب" ( يوحنا 12: 26). وبالجملة أراد المسيح للص التائب أن يكون معه ليصل إلى غاية السعادة، فيهتف بانتصارٍ: " لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جداً" (فيلبي 1: 23).

فلا يخَفْ أحدٌ من أن يرفضه المسيح أو يأبى أن يكون معه، ولكن الخوف كل الخوف هو أن نتقسّى نحن بغرور الخطية وننفصل من الوجود معه.

أما اللص فالتصق بالمسيح كطالبٍ لرحمته وشريكٍ لآلامه وشاهدٍ لبِرّه، في وقتٍ لم يقف مع المسيح أحد. ولأنه تألم معه تمجَّد أيضاً معه (رومية 8: 17).

 

4- نعيمٌ مقيم: " في الفردوس"

الفردوس كلمة فارسية معناها " جنة ملوكية" استعملها كتبة الوحي مجازاً للتعبير عن مكان الأرواح بعد خروجها من هذا العالم وهي في حالة انتظار يوم القيامة. وكما أن الذي يدخل فردوساً أرضياً يستظل بأشجاره الظليلة، ويشبع من قطوفه الدانية، ويرتوي من جداوله الجارية، وينتعش من نسيمه العليل، كذلك في فردوس السماء تجد النفس كل راحة وسعادة بين يدي خالقها " وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها" ( جامعة 12: 7). وكما أن آدم وهو في فردوس عدن كان يتمتع بالسلام والبر والبساطة والشركة المقدسة مع الله، كذلك النفس في الفردوس السماوي تلبس صورتها الأصلية في البر وقداسة الحق، وترفل في حلل السعادة والسلام.

عُرف الله في الفردوس الأول أثر عمله كخالق، وأما في الفردوس الثاني فيُعرف فيه الله على أثر عمله كفادٍ. الفردوس الأول كان دور الامتحان، والثاني معقل الانتصار. الأول طُرد منه الإنسان وقد ابتلّت وجنتاه بالدموع، والثاني رُدَّ إليه الإنسان بمظاهر الابتهاج، فوضع الله يد المِلكيّة عليه، ومنحه من جديد ثمرة شجرة الحياة ببر المسيح إلى الأبد، فتحقق له الوعد: " من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله" رؤيا 2: 7).

 

وبما أن الرسول بولس استعمل كلمة الفردوس مرادفة لكلمة " السماء الثالثة" حيث مناظر الرب وإعلاناته، وحيث اختُطف هو في غيبةٍ، وسمع كلماتٍ لا يُنطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها، فنعلم أن سعادةً لا توصف تنتظرنا هناك. فإذا سألنا : أين الفردوس؟ فالجواب الذي لا شك فيه هو " حيث يكون المسيح"! وإن سألنا : ما هو الفردوس؟ فالجواب هو أن نكون دائماً مع ربنا وعلى شاكلته تماماً! وبما أن اللص كان ( على ما يُظن) من المجرمين السياسيين، وكان يدافع عن الوطن الأرضي لقومه، فقد أنار المسيح ذهنه ليكون توّاقاً لما هو أفضل : للوطن السماوي.

 

الكلمة الثالثة

" فلما رأى يسوع أمه، والتلميذ الذي كان يحبه واقفاً، قال لأمه:" يا امرأة، هوذا ابنكِ" ثم قال للتلميذ: " هوذا أمك" ( يوحنا 19: 26و 27).

هلموا انظروا ابناً باراً، في عنفوان الشباب وربيع العمر، يموت مصلوباً على مرأى ومسمع من أمه الحزينة، وهي تسكب أقدس مشاعر الأمومة المتألمة. هجرت النوم وجفت الرقاد، لأن اليهود قبضوا على ابنها وجرّوه للمحاكمة دون أن يجني ذنباً أو يأتي إثماً.

وسارت وراءه بخطى واسعة، ولكن ازدحام الجماهير الهائجة المائجة حال دون أن تراه أو تلحق به! ولما وصلت مكان تنفيذ الحكم الظالم، تحيط بها بعض النساء المخلصات، يزاملهن يوحنا الحبيب، وقفت من بعيد! هناك سمعت الأم دقات المسامير في جسد ابنها العزيز! وسمعت تعييرات المعيّرين وهزء الساخرين، ورأت ابنها يُعلَّق عرياناً على خشبة، فوق رابية عالية في الشمس المحرقة، ورأت أربعة حراسٍ يقتسمون ثيابه ثم يلقون قُرعةً على قميصه! فدفعتها العاطفة إلى الأمام، فشقَّت مع زميلاتها صفوف الأعداء، يتبعهن يوحنا، ووقف الجميع بجوار الصليب!

هناك وقعت العين على العين وقعاً يفطر القلوب، والتقت النظرات بالنظرات لقاءً يشق الأفئدة! وفي صمتٍ رهيب تبادلا بتبادل اللحظات مأساة الحب ولوعة الألم، فكانت دموعها المنهمرة تزيد لّجة آلامه، وكانت دماؤه الجارية تعج في بحر آلامها!

صمتوا لأنهم عاجزون. أما هو فحتى في أوجاع موته لم ينسَ مواساة الغير، فالتفت يوصي والدته بيوحنا، ثم ليوصي يوحنا بوالدته. فجاءت تلك الوصية مرآة جلية تُظهر لنا الموصي في عظمة طبيعته الفائقة، والموصَى والموصَى بها في أجمل خُلُقهما وأكرم فضلهما.

 

1- الموصِي: المسيح له المجد

عاطفته:

هذا هو الإنسان الكامل في أنبل عواطف الإنسانية، فآلامه المريرة لم تحجز محبته الفائقة، وإذ رأى والدته تبكي نسي آلامه في بحر دموعها. ومع أنه كان يجوز أعظم أزمة في تاريخ الكون، وقد تصدّى لها بحمل أشد الألم ليكفّر عن خطايا البشر، إلا أنه لم يهمل واجباته البنويّة، ولم يؤجل وصيته إلى ما بعد القيامة، بل أكرم والدته علانيةً من فوق الصليب، حيث جاءت في غير خجلٍ من ابنها المصلوب.

لقد عرف صعوبة وقوف أمه بجوار الصليب، ولم يُرِد أن يُجهدها أكثر أو يثير عواطفها، فلم ينادها: " يا أماه" حرصاً على شعورها عند سماع هذه الكلمة المقدسة، التي لا بدّ ستُعيد إلى بالها ذكريات الميلاد في بيت لحم، وزيارة المجوس الخ ... ولأنه أراد تعزيتها في وحدتها، وأن يعوّضها ابناً آخر عن نفسه. وهو على وشك الفراق، خاطبها خطاباً أرق من النسيم موصياً يوحنا بها قائلاً: " يا امرأة، هوذا ابنكٍ". وهكذا نرى أنه دبّر راحة والدته في مستقبلها بوصية إلى صديقٍ له. ولم يدبر أمورها بمعجزة، مع أنه صانع العجائب، بل أراد هذه المرة أن ينفّذ رغبات عواطفه الشفوقة عن طريق سير الأمور الطبيعي، كابن البشر. وقد قام بذلك ليس كمن يفعل إحساناً بل كمن يوفي ديناً، كابنٍ بار بوالدته. وهو في ذلك كله يتجلى لنا إنساناً وابن إنسان ممثّلاً للإنسانية في أوج كمالها.

 

فاتَّعِظوا إذاً يا بني الإنسان، ولا تتَّصفوا بنكران الجميل، ولا تعتذروا عن إهمالكم لذوي قرباكم بانشغالكم في خدمة الدين أو خدمة الوطن، ولا تتستَّروا وراء الظروف والأزمات، وأقيموا الواجب المحتوم، واضرموا المحبة متمثّلين بصاحب أنبل عواطف الإنسانية المتأجّجة على صليب الجلجثة.

 

كفارته:

شرب المسيح كأس الألم صِرفاً ليسقينا كأس السرور صافيةً، فكان على الصليب يتألم ويرحب بكل أنواع الألم، في سبيل التكفير عن خطايانا. وكان منشأ هذا الترحيب بالألم رغبته العميقة غير المحدودة ليقدّم الفداء كاملاً ومملوءاً وفائضاً.

ومن عادة الذين يموتون شنقاً وسط الخجل والعار أن يهتموا كي لا يحضُرهم أحد من أهلهم؟ ولكن المسيح سمح لأمه وتلميذه المحبوب أن يكونا بقرب صليبه، دون أن يبالي بما في ذلك من مضاعفة آلامه. فكان المسيح ذبيحةً مُلتهَمَة، وسكيباً مسكوباً بمقدار ما كانت جراح المسامير تستنزف دماءه، ودموع الأحباء تمزق أحشاءه!

فخُذي إذاً يا نفسي من السلام أكثره، بمقدار ما أخذ المسيح من الألم أوفره! بل خذي من النِّعم أغزرها كما أخذ المسيح من الفقر أدقعه. ألم يعش من أجلك فقيراً وهو الغني؟ ألم يقل إن للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه (متى8: 20)؟ ألم يُمت فقيراً فجرّده العسكر حتى من ثيابه واقتسموها بينهم، فلم يبقَ له ما يمكن أن يتركه لوالدته. وحتى أمين الصندوق الذي كان يحمل حسنات الشعب شنق نفسه.

يا لها من أزمة! أمه امرأة ثكلى، وليس لديه شيء من المال يوصي به لها من بعده؟ من هنا نتعلّم نعمة ربنا يسوع المسيح، أنه هو الغني افتقر لكي يغنينا بفقره (2 كورنثوس 8: 9)! ووضع في أفواهنا أنشودةً دهرية نردّدها في أوقات الشدة قائلين: " لأن ليس لنا رئيسُ كهنةٍ غيرُ قادرٍ أن يرثي لضعفاتنا، بل مجرَّبٌ في كل شيءٍ مِثْلُنا بلا خطية" ( عبرانيين 4: 15) وهو " يقدر أن يعين المجربين" ( عبرانيين 2: 18).

 

مجده الإلهي:

إن كان خطاب المسيح لأمه يُرينا كماله الإنساني، فهو من جهةٍ أخرى يرينا مجده الإلهي، لأنه أراد بقوله " يا امرأة" وليس " يا أمي" أن يوجّه نظرنا أن صلتها به كمخلِّص أهم من صلتها به كأم. وقد علمت هي من خطابه إليها من على الصليب أن علاقته البشرية بها في هذه الحياة الحاضرة قد انتهت.   

 

2- الموصَى: يوحنا الحبيب

 

شجاعته: كان لمبادئ المسيح التأثير العجيب على نفس يوحنا، لذلك نرى فيه الشجاعة ممثّلة والجراءة مجسّمة. صحيح أنه رأى كتائب الرومان وغوغاء اليهود يقبضون على معلِّمه فتركه مع باقي التلاميذ وهرب. ولكن ضميره استيقظ، فعاد ليقف إلى جوار سيده وهم ينفّذون فيه حكم الصلب، ولم يعد يخشى بأسهم، بل ذهب ووقف بجوار الصليب وقفة الشهيد الباسل، فنال بوقفته في ذلك الموقف الحرج شرف البطولة دون بقية التلاميذ الذين تركوا سيدهم وهربوا، واستمروا في هروبهم! وإن كنا اليوم نمجد البطولة في شخص يوحنا، فأين اليوم مَن يقفون وقفته بجوار الصليب إزاء جحود الجاحدين؟ وأين الذين يحملون عار المسيح، ويحسبون ذلك أفضل من خزائن مصر؟ وأين الذين يعترفون به على جبل الجلجثة كما يعترفون به على جبل التجلي؟ وأين الذين يشهدون لدينه لو جرَّت عليهم تلك الشهادة العار والهوان، كما يشهدون له إذا نالوا من ورائه الخير والمديح؟

إن الوقوف بجوار الصليب وسط العار هو المحك الحقيقي للدين وشجاعة المسيحي لا تتبرهن إلا بالمخاطرة بنفسه كل ساعة في سبيل الخير العام. وإن كانت تلك الآلام لا تقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فيه، لكنها الطريق السلطاني لذلك المجد (رومية 8: 18). ولهذا كتب يوحنا للمسيحيين المضطهَدين - وهو في منفاه - مغتبطاً مفتخراً - أنه أخوهم وشريكهم في الضيقة العظيمة وفي ملكوت المسيح وصبره (رؤيا 1: 9).

 

محبته وصداقته:

إن سرّ شجاعة يوحنا هو المحبة التي صيّرته أخاً للمسيح، فوقف بجواره وقام لأمه بالواجب عوضاً عنه.

لقد وجد ابن الإنسان في يوحنا صديقاً وفياً لم يتركه وقت الشدائد، فأين اليوم الأصدقاء الذين لا يخونون أصدقاءهم ويحافظون على علاقات الصداقة؟ وما أبعد الفرق بين أمانة يوحنا وخيانة يهوذا! لقد سمع يوحنا قول المسيح للقابضين عليه، عن تلاميذه: " دعوا هؤلاء يذهبون" فلماذا يخاطر يوحنا بنفسه ويجيء للجلجثة؟ سِرّ ذلك كامن في المحبة التي هي أقوى من الموت! فما هو برهاننا نحن على أننا أصدقاء من هذا الطراز؟

لنسمع صدى اختبار يوحنا في قوله: " من كان له معيشة العالم، ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه؟" ( 1يوحنا 3: 17). ولنرَ أساس هذا الاختبار في قوله: " ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا من أجل الاخوة" ( 1 يوحنا 3: 16). وبعد أن مات المسيح لأجل الاخوة، فهل كثير أن نموت نحن من أجلهم؟ سحقا إن الصداقة الصحيحة هي التي تهون لديها الأموال والأعمار!

 

طاعته:

عندما سمع يوحنا المسيح يوصيه بأمه أخذها من تلك الساعة إلى خاصته، وبقيت عنده إلى يوم وفاتها. لقد أطاع توجيهات المسيح بسرعة وبلا تردد أو تذمر. لم يعمل للنفقات حساباً، بل قبلها كأحسن ميراث تركه المسيح على الأرض. وإن بيتاً يضمّ يوحنا الحبيب ومريم العذراء هو السماء على الأرض، ففيه الخدمة متبادلةً: هو يخدمها مادياً بماله، وهي تخدمه روحياً بمعلوماتها عن ابنها المبارك.

وكما أوصى المسيح يوحنا بأمه فأطاع، كذلك لا زال المسيح يوصينا نحن بالفقراء لإعالتهم، وبالكنيسة لبنيانها، وبالعالم لتبشيره.

فهل مَن يطيع، ويبادر بذلك من هذه الساعة؟ وإن كان الجندي في الحرب على أتمّ استعداد لتنفيذ الأوامر بغاية الدقة وبكل سرعة، أفليس الأولى أن نكون مستعدين لتنفيذ أوامر المسيح؟ ألا ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس؟ ألم يقدم المسيح نفسه مثالاً للطاعة حتى الموت؟ فلماذا لا نطيع تعليمه من القلب، ونلبّي نداء العالم المحتاج؟ " لا تمنع الخير عن أهله حين يكون في طاقة يدك أن تفعله" ( أمثال 3: 27).

 

3- الموصَى بها: مريم العذراء

 

همومها:

إن أماً ترى فلذة كبدها معلَّقاً على صليب، والجنود الأشداء يذيقونه أقسى الآلام حتى يموت، لا يمكن أن نتصوّرها إلا وهي تتمزق بالأسى. وما أثقل السيف الذي يجوز في نفسها؟! هي التي حملته وأرضعته، وتجشّمت في سبيله الأخطار وجابت الأمصار. أما الآن فإنها تقف لترى بعينيها ابنها الوحيد يموت، لا موت الأبطال بل موت المجرمين، وليس بين الأصحاب بل بين الأعداء والخصوم. فما أثقل همومها!

عزاؤها:

كانت مغمورة بإحساس الألم، لكن لم يتسرب اليأس إلى نفسها، بل شعرت كأم، وتصرفت كمسيحية. لقد أطاعت إرادة الله الذي سمح أن يتمم أسرار فدائها وفداء العالم، فآمنت أن ابنها يُقدَّم ضحيةً لخلاص البشر جميعاً، بمن فيهم هي، فكان إيمانها علاجاً لآلامها. إنها لم تعتذر أبداً عن القيام بأي واجبٍ مهما كلفها من ثمن. والآن ها هي تتحمل الألم بصدر رحب، يصفها بالقول: " وكانت واقفة!" فهي كانت ولا زالت أَمَةُ الرب!

وقد أرسل المسيح بلسماً لحزنها وأطفأ حر كبدها، فانقشعت ظلمة غيوم الفراق تحت أشعة وصيته المباركة، فنال العذراء المباركة مع التجربة المنفذ، وواجهت المستقبل في نور تلك الوصية. وكان إيمانها في قدرة ابنها ورجاؤها في قيامته نوراً يضيء نفسها وباعثاً لصبرها وعزائها.

نذكر ذلك عظةً للمتألمين وعبرةً خاصة للنساء، فيقفن في أحزانهن موقف العذراء، موقف التسليم والصبر الجميل والرجاء العامر بالأمل.

 

مقامها:

والحق يقال أن مجيء العذراء لتحمُّل العار مع المسيح وصبرها على الألم بجوار صليبه هو أكبر شرفٍ للأنوثة وأعظم رفعةٍ لمقام المرأة، وهو الدليل على قدرتها على القيام بأكبر الخِدم والتوشُّح بأسمى الفضائل. وإذا استوعبنا كل ما سلف، خليقٌ بنا أن ننزع عنّا الأنانية وننزل إلى ميدان الإيثار. وفي هذا الميدان ليعمل العاملون، وليتسابق المتسابقون.

 

الكلمة الرابعة

" ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي إيلي لما شبقتني؟ أي: إلهي إلهي، لماذا تركتني؟" ( متى 27: 46).

 

هذه كلمة عميقة رائعة نطق بها المخلِّص بعد أن تعلَّق على الصليب ست ساعات عصبية، على رأسه إكليل من الشوك، وفي ظهره أخاديد من آثار السياط، ويداه ورجلاه مثخنة بالجراح. وكلما وهنت قواه وثقُل جسمه زادت ثقوب المسامير اتساعاً، حتى صار كل جسمه يقطر دماً من هامة الرأس إلى أسفل القدم!

 

وكانت الشمس في الثلاث ساعات الأولى مشرقة كعادتها، وأصوات الجماهير الهائجة تشق عنان السماء، والأغلبية الساحقة يهزأون به، وفئة قليلة تنوح عليه. فكان تارة يصلي لأجل المسيئين، وأخرى يواسي النائحين! غير أنه في منتصف النهار أسدلت الظلمة ستارها الكثيف فصمتت الألسنة وهدأت الأصوات وسكنت الحركات ثلاث ساعات! وكان المخلِّص في هذا السكوت الرهيب المستوحش يعاني آلاماً نفسية مبرحة، غير ما كان يعانيه من ألم الصلب وعاره. كانت آلامه دفينة لم تُر ولن ترى لأن الظلمة سترتها عن عيون البشر. ولكنها كانت آلاماً شديدة لا تماثلها فواجع الحرب الضروس، ولا تحاكيها أهوال الطبيعة الثائرة! آلاماً ذاب في تنّورها فؤاده الكبير كما يذوب الشمع أمام النار! آلاماً سرية من يد الآب، لا يدكها عقل ولا ينطق بها لسان! وما جاءت الظلمة الدامسة تعمُّ الأرض كلها، إلا لتعلن في ثوب الحِداد أن سيد العالم يكابد آلام الموت الكفاري، ويعاني وحده قصاص الخطية كنائبٍ عن البشر! ولم يدُمْ هذا المنظر العجيب الرهيب أكثر من ثلاث ساعات، فما انبلج النور حتى تنفَّس المخلّص الصُّعداء وصرخ بصوت عظيم: " إلهي إلهي لماذا تركتني"؟!

صرخ بصوت عظيم ليعبّر عن مرارة نفسه التي لا يمكن أن تبرز ليشعر بها الحس! وكانت صرخته بلغةٍ عامية، ليسكب شكواه القلبية بسهولة وطلاقة. واقتبسها من المزمور الثاني والعشرين، ليعلن مِن على الصليب أنه هو ذاته المسيا المنتظر.

وإذا تأملنا بخشوعٍ في تفاصيل هذه الكلمة، نرى أننا في قدس أقداس التعليم المسيحي، فهي تشتمل على سؤال عظيم، يحوي أسراراً عميقة، تعلّمنا دروساً قيِّمة.

 

1- سؤال عظيم

سأل المسيح، وهو يحتمل العقاب المريع من يد الآب: " إلهي إلهي لماذا تركتني؟" فقد كانت العقوبة أشد ما تكون صرامة، والمُعاقِب هو نفس الآب القدير المحب، والمُعاقَب هو الابن المعزز البار، وسبب العقوبة ذنب جناه غيره!

 

عجباً! لماذا تركتني؟ ولماذا تصل العقوبة إلى حدّ الترك وكسر الشركة المقدسة!؟ يهون عليّ أن أصل إلى حضيض الفاقة، فأُجرَّد من الثياب وأعطش إلى نقطة الماء. ويسهل عليّ أن ألاقي خيانة الأصحاب وظلم الأعداء أشكالاً وألواناً. وتصغُر لديَّ القيود والبصق في الوجه والجَلد والصَلب. حتى الموت الزؤام لا أحسب له حساباً!

ولكن كيف أحتمل أن وجهك لا يسير معي؟ وهل في الكون أو ما وراء الكون عقابٌ أشرّ من النفي من حضرتك والحرمان من رضاك؟ لماذا تسقيني كأساً هي خلاصة الجحيم وعصارة الغضب الإلهي؟ لماذا تملأ كأس الغضب إلى التمام فاشربها حتى الثمالة؟ أليس في هذا حزنٌ تنفطر له المرارة، وغمٌّ يُذيب الفؤاد؟ لماذا تسمو إلى قمة المباهج بينما أنا أهوى إلى وادي الأحزان العميق؟ أجل! سرورك أن تسحقني بالحزن، فقد رفضَتني الأرض لأني بلا خطية، ولكن أنت رفضتَني إذ صيَّرتني خطية، فجعلتني تحت العقاب صورة العيوب ومجتمع القبائح! لماذا تهوي بي إلى هذا الدرك الأسفل، وتُقصيني عنك إلى هذا الحد الأبعد؟

عجباً! لماذا تركتني أنت؟ لماذا يدك يا إلهي وأبي تستل الحسام على ابن محبتك وتوقظ السيف على رجل رفقتك؟ لماذا تجفوني ويصير نزوعك إليّ نزوعاً عني؟ لماذا لا تلطف بي وتعطف عليّ؟

لا عتب على يهوذا إذ خانني، ولا بطرس إذ أنكرني، ولا قيافا إذ أسلمني، ولا بيلاطس إذ حكم عليّ، ولا ملائكة إذ أحجموا عن مساعدتي، ولكن أنت إلهي إله الأمانة، الذي تربطني وإياك أواصر البنوية. أنت يا مَن أحببتني قبل إنشاء العالم، لماذا تقلب لي ظهر المجن فتمزق سهامك أحشائي؟ لماذا تقطع عني العون والمدد وتحجب وجهك عني؟ لماذا تركتني أنا؟ ألستُ أنا حبيبك الذي سُرَّت به نفسك؟ ألم أعمل كل حين ما يرضيك؟ ألم أُظهر اسمك للعالم؟ ألم يكن طعامي أن أعمل مشيئتك؟ ألستُ في حالةٍ تتوجّع لها القلوب، فلماذا تحبس عني رحمتك وتزيد جرحي إيلاماً؟ كيف لا يصل الابن إلى درجة العبد، فالشهداء تُمزَج آلامهم بالتعزيات، لكن ابنك يخلو من التعزية! كيف المحبوب لا يُحَب، وخاصتك يُنفَى من أمام وجهك؟ كيف يُغطي الهوان أعزَّ عزيز لديك، وكيف النور يكسوه الظلام! كيف ينوء مُريح التعابى تحت حمل الأثقال، وكيف يئنّ مُجفّف دموع الحزانى متوجعاً؟

عجباً، لماذا! لماذا كل هذا؟

لا يقدر الخاطئ إذا وقع تحت القصاص أن يسأل: " لماذا" لأنه عارفٌ بخطيته، وأما ابن الله فله أن يسأل لأنه قدوس بلا شرٍّ ولم يرتكب جُرماً. فعل لأجل ترابٍ صاروا هدفاً للحب الأبدي يصير هو هدفاً للقصاص الصارم؟ وهل لأجل أن يصير الناس موضع إعزاز الآب، يُهين الآب ابنه؟

الحق يقال إن هذا سؤال عظيم يدعو لكشف غوامض لم نكن نعرفها!

 

-2- أسرار عميقة

لا شك أن المسيح عرف السبب الذي لأجله قدم سؤاله، ولكنه سأل لنعرف نحن الأسرار العميقة التي يحتويها. فإذا كان الصليب هو الحق الأساسي للعهد الجديد، فإن هذا السؤال هو قلب هذا الحق وأعمق تصريحاته. هو الصبح وضوحاً وبياناً في إظهار أسرار التأنّس، والكفارة والمحبة، والخطية. وهي الحقائق الأربع التي تُعتبر تعاليم الصليب الجوهرية.

فمناداة المسيح " إلهي إلهي" وهو الرب الإله، تدل دلالة بيّنة على سرّ تجسده وخضوع الناسوت للاهوت.

وصرخته " لماذا تركتني؟" تعلن في وضوح محبته الفائقة التي جعلته يصنع كفارة عن خطية الإنسان بحرمانه مؤقتاً من رضا الآب، ليردّنا إلى شركة الطبيعة الإلهية.

 

سر التجسد:

برهن المسيح على أنه الإله المتأنس بصفاته الخالية من كل عيب، ومعجزاته الفائقة الطبيعة، وتعاليمه الفوق بشرية، وملكوت السماء الذي أسسه على الأرض، ودخوله للعالم وخروجه منه بطريقة خارقة للعادة. ولا نجد حلاً معقولاً للغز الكون إلا في الله، ولا نجد حلاً للغز إلا في المسيح، ولا نجد حلاً للغز المسيح إلا في الصليب، الذي فيه وحده سد إعواز الطبيعة البشرية وبلوغها إلى درجة الكمال. فالمسيح إله تام وإنسان تام بلا انفصال ولا امتزاج فهو " الله الذي ظهر في الجسد" (1 تيموثاوس 3: 16) وهو " صورة الله آخذاً صورة عبد" وهو الذي " وضع نفسه في الهيئة كإنسان" (فيلبي 2: 5- 8). فكإنسانٍ تعبّد لله وخضع لرئاسته وتمم إرساليته وتألم ومات، ولكنه كإلهٍ مساوٍ للآب في جوهر، لا يكل ولا يعيا أبد الدهور.

فالألم وقع فقط على الناسوت، ولأن اللاهوت لم يفارقه لحظة ولا طرفة عين صرح الإنجيل أن الترنيمة السماوية تقول:" ذُبِحْتَ واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلةٍ ولسان وشعب وأمة" (رؤيا 5: 9) ودعا الإنجيل المسيح عمانوئيل الذي تفسيره " الله معنا" (متى 1: 23).

 

سرّ الكفارة:

ما كنا نعلم أن الله كريم لدرجة أن يسخو بنفسه فينوب عن البشر في حمل خطاياهم‍ ولكن بعد أن رأينا المصلوب وسمعنا صراخه، نؤمن ونقرّ أنه سمح لجسده المبارك أن يُسمَّر على الصليب حتى يسمِّر عليه صكّ خطايانا. ونؤمن أيضاً أنه حمل على نفسه اللعنة التي نستحقّها ليملأنا ببركاته. لقد وضع نفسه وقبل أقسى جزاء على النفس والجسد معاً عندما صرخ:" إلهي لماذا تركتني؟" ليقدم ترضية للعدل الإلهي نيابة عنا.

وعمل المسيح النيابي هذا حق صريح يعلنه الكتاب وتدعمه الطبيعة ويؤيده التاريخ البشري.

أما الكتاب فبكل تاريخه وطقوسه ونبوّاته وتعاليمه يشير إلى مبدأ " بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" ( عبرانيين 9: 22).

أما الطبيعة فنواميسها وظواهرها تدل على العمل النيابي. قال أحد علماء الطبيعيات:" الأرض مبنية على أفكار روحية مركزها الفداء بذبيحة نيابية، فالمرجان يموت ليبني الصخور، والصخور تتفتَّت لتكوِّن التربة، والتربة تتحلل في عناصر العالم النباتي، والنبات بدوره يقدم ذاته للعالم الحيواني، وكلاهما يبذل نفسه للإنسان".

ونلاحظ في نظام البشر العمل النيابي، فالآباء ينوبون عن أبنائهم، والنواب السياسيون عن دوائرهم، والمحامون عن موكليهم. فلا شك إذاً في ضرورة وجود عمل نيابي لخلاص البشر الخطاة، ولم يَقْوَ عودٌ على رفع راية الخلاص إلا عود صليب المسيح " فإن المسيح تألم من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يقرِّبنا إلى الله" ( 1 بطرس 3: 18).

 

سر المحبة:

هيا إلى شاشة الصليب الحمراء أيها القارئ فتقرأ في وجه المسيح صورة الحب، وترى على محيَّاه آية التضحية! وما أدراك ما هذا الحب الذي يسمو فوق السماء!    " الله محبة" وقد تكشفت هذه المحبة في أنه " لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين. كيف لا يهبنا معه كل شيء" (رومية 8: 32)!؟ في هذا نرى المحبة، ولكن أذهاننا تسبر غورها، ولا تبلغ أبصارنا مداها. ففي الصليب نكتشف سِرّ الحب، ونستخرج من معدنه ذخائر التضحية. فهناك نرى خالقاً سامياً يسخو بنفسه لأجل جبلةٍ ساقطة! يا للاكتشاف! هكذا أحب الله العالم، حباً جرت قنواته لتروي الحياة البشرية وتتغلغل في كل نواحيها، فتثمر أطيب الثمرات!

 

سر الخطية:

" فعل الرذيلة عند الجاهل كالضحك" ( أمثال 10: 23) ولكن لا نكتشف حقيقة الرذيلة وخطرها إلا إذا سألنا: لماذا الصليب؟ وكفاها خطراً أنها عندما حُسبت على المسيح لم تُترك وشأنها، ولم تُعامل بتساهل، بل حمل في شخصه الكريم قصاصها المريع، فحجب الآب وجهه عن ابنه المبارك! لقد كشف الصليب حقيقة البر وحقيقة الشر، وأوضح بحروفٍ من نار أن الخطية شرّ أعظم من أن تداويه يدٌ بشرية، ومثَّل على مسمعٍ من كل البشر كم " مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي" ( عبرانيين 10: 31). فإن كان المخلِّص سقط تحت حمل الدينونة، فلماذا يعمل الخاطئ المنفيّ عن الرحمة الإلهية؟ إن الخاطئ في يوم الضيق أو ساعة الوفاة تكون لديه الأرض بخيراتها خدعةً وسراباً، والآخرة عذاباً وفناءً.

 

ولكن عندما يضيء الله بمجده الأبدي على الأبرار في السماء يتطلع الخاطئ بحسرة أبدية دون أن يجد رحمة أو عزاء. فالخطية ليست شيئاً هنياً وليست هي مجرد تعد على قانون، بل هي ثورة ضد الله سبحانه، ومعارضة لمشيئته وإتلاف لصورته فينا " إن كان أحدٌ يفسد هيكل الله فسيفسده الله" ( 1 كورنثوس 3: 17).

 

-3-  دروس قيِّمة

لم يتألم السيد لينوب عنا فقط، بل ليرسم لنا خطة عملية نقتفي فيها أثره ونجري على أسلوبه. فمن الشرف الأعظم والامتياز الأسمى أن نحذو حذوه وننسج على منواله، وذلك فيما يأتي:

 

الصبر:

قبِل المسيح آلامه جميعها طواعيةً واختياراً، فأقبل على الصليب بثبات، وكان بين المعذبين أسلس من الماء وألين من أعطاف النسيم، وقابَل ترْك الآب له بصلاةٍ سكبها من معدن طبيعته البنويّة، وصاغها من نصوص التوراة، وهي لغة أبيه، ملتصقاً بثباتٍ بالآب الذي تركه.

فلماذا لا تتسع صدورنا لِما يوهب لنا من ألم، فإن الله أحياناً يضع علينا صليباً معيَّناً ليعلّمنا الصبر ويدربنا على الطاعة، فقد " وُهب لنا لأجل المسيح، لا أن نؤمن به فقط، بل أيضاً أن نتألم لأجله" ( فيلبي 1: 29). وهناك فرق عظيم بيننا نحن الذين نترك الله لنفتش على الخطية، وبين الله الذي يتركنا أحياناً ليمتحن إيماننا ويصقل محبتنا. فإذا كثرت في داخلنا الهموم، وأضنت أجسامنا الأسقام، وتخلّى عنّا الأهل والأصحاب، وانقطعت عنا كل مساعدة وتعزية، فلننظر إلى المسيح، فهو شريك لنا في بأسائنا " لأنه في ما هو قد تألم مجرباً يقدر أن يعين المجربين" ( عبرانيين2: 18).

 

الصلاة:

صرخ المسيح إلى الله، وهذا يعلّمنا أن وقت ضعفنا هو وقت ظهور أعمال قوة الله. فعندما نتصوَّر بُعد الله عنا نجد أنه في الحقيقة هو وقت قُرب الله منا، ما دمنا ندعوه كما دعاه المسيح " إلهي". فهو لا يتخلى عن الذين هم له. فلم توجد ساعة كان المسيح فيها أحب إلى الله أكثر من تلك الساعة التي كان فيها يفدي ملايين البشر. من أجل هذا استمع له ولم يترك نفسه في الهاوية. لقد سلّم المسيح أمره إلى الله. لم ينزل عن الصليب، ولم يعمل معجزة كان في سلطانه أن يعملها ليعزي نفسه، ثم لم يشْكُ من خيانة الأصحاب ولا من قسوة الأعداء، بل شكا للآب أنه تركه، ثم فوّض الأمر كله له.

ونحن إذا تألمنا، فلنتأكد أنه لا تسقط شعرة من رؤوسنا إلى الأرض بدون إذنه ( متى10: 30 ولوقا 12: 7). وعلينا أن نبثّ شكوانا لله تعالى فقط وليس للناس. فالمعذَّب الحكيم يشكو عذاباته للقاضي وليس للجلاّد، والمريض الذكي يشكو مرارة الدواء للطبيب وليس لزميله المريض، والجندي الشجاع يُظهر جروحه لقائده وليس للأعداء.

 

التواضع:

لا يوجد ما يُخجِل كبرياء البشر أكثر من اتضاع المسيح. فليتنا بدل أن نرتدي ثوب الكبرياء أن نقف إلى جوار الصليب، فتتضاءل لدينا أنفسنا ولا نتجاوز حدودنا " فليس التلميذ أفضل من المعلِّم، ولا العبد أفضل من سيّده" ( متى 10: 24).

 

الخدمة:

ألا تثير أنّات المسيح وصرخاته مشاعرنا وأحاسيسنا؟ وهل نرفض بعض الدموع التي نتكلّفها في طريق خدمته وهو الذي لأجلنا بذل نفسه؟ لقد حمل خطايانا المعيبة، فهلاّ نحمل نحن أثقال الآخرين ونضع أعناقنا تحت نير خدمتهم؟ يقول لك المسيح الذي علمنا التضحية، وفجر لنا ينابيع البذل والعطاء: " اتبعني". فمن يقول له: ها أنا يا رب، أرسلني في خدمتك؟ (إشعياء 6: 8).

 

الكلمة الخامسة

" أنا عطشان" ( يوحنا 19: 28)

هذه أقصر كلمات المسيح التي نطق بها وهو على الصليب، فجاءت حسب الترجمة العربية في كلمتين: " أنا عطشان" ولكنها في الأصل اليوناني كلمة واحدة، قصيرة في لفظها، لكنها عميقة في معناها. نطق بها المسيح وهو يتجرع الآلام، التي أصبحت قصة الفداء التي يستعذبها البشر المفديون! لقد استساغ المسيح المرّ لنشرب نحن الحلو! وأعلن احتياجه لنعلن نحن حاجتنا إليه! وتوسّل للبشر الضعفاء طالباً شربة ماء، ليكون مطمح الذين يرجونه من البشر، ومعقد أمل اللاجئين منهم إليه، فقد أتعبه العطش ليروي كل ظمآن يقصد مراحمه من نهر الحياة الصافي.

كان العطش قد أخذ من المسيح كل مأخذ نتيجة آلام عشرين ساعة متواصلة من جثسيماني، إلى المحاكم، إلى الجلجثة حيث أصابته حمى محرقة بسبب جراحه البليغة الخطيرة، فجفّ ريقه ويبس لسانه، وتحقّقت فيه نبوّة المرنم: " يبسَتْ مثلَ شفقةٍ قوّتي، ولصق لساني بحنكي" ( مزمور 22: 15).

ومن العجيب أنه وسط كل هذه الآلام، وبعدما عانى في ساعات الظلمة هول الدينونة الرهيب، نراه متمالكاً لنفسه، صادقاً في محبته للكلمة المكتوبة. وإذ رأى أن كل شيء قد تم، وبقي إتمام النبوة القائلة: " انتظرتُ رِقّة فلم تكن، ومعزّين فلم أجد ... وفي عطشي يسقونني خلاً" ( مزمور 69: 20- 21). فلكي يتم الكتاب قال: " أنا عطشان".

لقد بخل عليه اليهود بنقطة ماء وهو مشرفٌ على الموت، بسبب ما كان في قلبهم عليه من حقد. واستهزأ به جنود الرومان لبلوغه هذا الدرك من العجز والبؤس، فأخذ أحدهم اسفنجة وملأها خلاً ووضعها على قصبة وسقاه. فلما ذاق ذلك الخل الذي لا يسيغه الفم قال: " قد أكمل". وهكذا مات بين أعدائه في شدة العطش.

وإذا أمعنا النظر في قوله له المجد: " أنا عطشان" تتجلى لنا شخصيته المباركة في أربعة أمور: طبيعته، وعمله، ومثاله، ومطلبه.

 

-1- طبيعته

يا للعجب! إن الذي يقول: " أنا عطشان" هو نفسه " الذي يعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً" ( رؤيا 21: 6)، والذي يفتقر إلى نقطة ماء هو " الذي به كل شيء كان وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يوحنا 1: 3). ولا غرابة، فالمسافة اللانهائية بين عرشه الذي يجري منه نهر ماء الحياة صافياً كبلّور، وبين صليبه المنشئ لأقسى أنواع العطش هي حدود محبته الفائقة التي جعلته يخلي نفسه، ويظهر لصاليبه كإنسان ضعيف محتاج. ولأنه وصل في ناسوته إلى هذا الدرك الأسفل من الهوان، استغاث وليس مَن يغيث.

عطش شمشون فسقاه الرب من الكِفَّة التي في لَحْيٍ (قضاة 15: 19)، وعطش بنو إسرائيل في البرية فسقاهم الرب من الصخرة ( العدد 20). وعطش المسيح فلم يعمل له الآب معجزة، ولم يعطف عليه من الناس أحد. عطش داود فشقّ أصحابه معسكر الفلسطينيين وجاءوه بماءٍ من بئر بيت لحم ( 2 صموئيل 23: 16). وأما المسيح فلم يجد أحداً من تلاميذه يواسيه في ساعة شدته، مع أن شريعة اليهود كانت تقول: " إن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه" ( أمثال 25: 21) ولكن اليهود عاملوا المسيح أكثر من عدو، فلم يجد عيناً تشفق أو قلباً يرق.

كله إذ أصاب المسيح برهاناً على اشتراكه التام في بشريتنا، فالعطش ليس من خواص الملائكة، ولكنه شرٌّ يصيب البشر أيام الخراب وانقطاع المطر، وقلّما يعاني منه أهل الطبقات الرفيعة. ولم يكن عطش المسيح بالبسيط الهيِّن، لأنه كان عطش الاحتضار والموت. ولم يكن عطش الموت العادي، بل عطش الموت النيابي عن كافة البشر. فالمسيح إذاً قد وصل إلى أكثر من الحد الأقصى لآلام الإنسان عند موته، وبرهن بهذا أنه بالحقيقة " عمانوئيل" الله معنا أينما كنا وفي أية منزلةٍ نزلنا! فإذا سرنا في وادي ظل الموت، أو إذا لحقتنا حرارة الحمى، أو أصابنا خطبٌ داهم، فلنذكر أن طريقنا يجري بجوار طريقه، وأن السهم الذي يخترق أحشاءنا قد تلطخ أولاً بدمه، وأن الكأس التي نشربها مهما تكن مُرّة فقد تجرّعتها شفتاه الطاهرتان قبلنا! فهو يعرف عملياً ويلاتنا وأحزاننا، وقد جازها قبلنا، وصار وليّ شأننا ومقدام نصرتنا.

أليس باشتراك المسيح معنا في أحزاننا حوّل تلك الأحزان إلى مباهج؟ فكلما تصورنا المسيح معلَّقاً على الصليب بلا مال ولا أصحاب، جوعاناً، عطشاناً، لا يسعنا إلا الصبر والشكر تحت نير الفقر والاحتياج، والتجلّد والثبات أمام نوازل الدهر. فكأس المسيح كانت أمرّ من كأسنا بمراحل، وهل ينتظر العبد كرامة أكثر من سيده!!

 

-2- عمله

يا للمحبة الفائقة التي يقابلها الإنسان بالعداوة، فما أحط طبيعة الإنسان وما أرذلها. فبينما يدّعي أنه مخلوق لطيف يتقدم من حسن إلى أحسن، إذا بقلبه نجس وخدّاع.

جاء المسيح يعمل صلاحاً ويخدم الإنسان، فلم يلقَ من الإنسان إلا كل إعراض وجفاء. فمنذ ميلاد المسيح لم يجد مكاناً ينام فيه، وعند موته لم يجد كأس ماءٍ يشربها. وكانت هذه معاملة الإنسان لفاديه المحسِن. والإنسان في أعلى درجات تديُّنه ممثَّلاً في كهنة بني إسرائيل، وفي أوج نظامه السياسي ممثَّلاً في حكومة الرومان، يرتكب ضد إلهه كل هذا الشر. ولما قدّم أحدهم للسيد خلاً ومُرّاً برهن على أن " مراحم الأشرار قاسية" ( أمثال 12: 10) وأن أعدلهم مثل العوسج.

ولكن لماذا قبل المسيح هذه الآلام وتلك المعاملة؟ لا شك أن عطشه الشديد، وشربه المر، لم يكن إلا ليحل محل الخاطئ، ويقوم بمسؤوليته في احتمال قصاصه العادل. وبما أن الكتاب المقدس يقرر أن دينونة الله تُهلك " النفس والجسد كليهما في جهنم" (متى 10: 28) احتمل المسيح كنائب الخطاة آلام النفس عندما صرخ:        " إلهي إلهي، لماذا تركتني؟ " واحتمل آلام الجسم عندما نادى:" أنا عطشان". وبما أن الخطية ابتدأت بشهوة الطعام على شفتي آدم، فلزم أن تنتهي بنكران تلك الشهوة والحرمان منها في " آدم ثاني" الذي هو المسيح. فآدم الأول ابتدأ بالنَّهم والتطاول على ما ليس من حقه، وأما آدم الثاني فعالج هذا الداء باحتمال العطش والتخلّي عما يستحقّه. وبما أن الخطية أنشأت عطشاً في نفوس البشر للسعادة والسلام، ولم يستطع العالم الحاضر بمسرّاته أن يقدمها لهم، وبما أن لهب الجحيم في العالم الآخِر لا تزال مندلعة حيث يطلب الخاطئ " نقطة ماء يبرّد بها لسانه" فلا يجد (لوقا 16: 24) فالمسيح وهو يحارب لفدائنا احتمل بعطشه كل هذه النتائج. لقد عطش مرة لكيلا نعطش نحن إلى الأبد، وامتصّ اسفنجة الخل لنرتشف كأس السعادة والسرور. واشتد عطشه ليجعل كأسنا رياً. " ومن يعطش فليأت، ومن يُرِد فليأخذ ماء حياة مجاناً"   ( رؤيا 22: 17). " أيها العطاش جميعاً هلمّوا إلى المياه ... تعالوا اشتروا ... بلا فضة خمراً ولبناً ... كلوا الطيب، ولتتلذّذ بالدسم أنفسكم" (إشعياء 55: 1و 2).  

 

-3- مثاله

لم يتألم المسيح ليكفّر عن خطايانا فقط، ولكنه تألم ليكون أُسوة تُقتفى ومثالاً يُحتذى، فقدم لنا مثالاً في:

إكرام الشريعة:

كثيرون للأسف يعيشون في الارتداد عن الله، يتعبّدون للمادة، ويحوّلون النظر عن كلمة الله ويتجهون إلى العقل البشري الضعيف الذي يعجز عن أن يقدم حلاً لألغاز الكون. وكثيرون حولنا " لاأدريون" ومن هذا الاسم لا يخجلون.

 

ولكن السيد المسيح بتعليمه ومثاله يوقفنا وسط هذه العواصف على صخرة الكتاب فلا نتزعزع. فقد قال إن زوال السماء والأرض أيسر من أن يزول حرفٌ واحد أو نقطة واحدة من كلام الله (متى 5: 18). وسيستمر الكتاب المقدس أبد الدهور أساس إيماننا. وفي أشد أوقات المسيح صعوبةً أعلن أنه لا بد أن يتم المكتوب. وإن كان المسيح قد عظّم الشريعة وأكرمها إلى هذا الحدّ، فيجب أن نتمسّك بالكتاب إلى النهاية، ونتّخذه قانون إيماننا وأعمالنا لأنه " ليس أمراً هيناً علينا بل هو حياتنا" فنقول مع المرنم: " كم أحببتُ شريعتك. اليوم كله هي لهجي" (مزمور 119: 97). س

 

ثم قدم لنا مثالاً في :

ضبط النفس:

قبِل المسيح الحرمان من كل شيء، ومات عطشاناً إلى الماء. قهر جسده وأغفل راحته في سبيل أغراضه الروحية السامية، ولم يحسب لملذّات الحياة الفانية حساباً بالنسبة لسعادة الحياة العتيدة. وكان شعاره: الله قبل الإنسان، ومصلحة الغير قبل المصلحة الشخصية، والسعادة المعنوية قبل السعادة المادية، والتزوُّد للآخرة قبل التزوّد للحياة الحاضرة. فهل نضبط أنفسنا بهذه الحدود؟

 

قولوا للمولَعين بالخمر: إن المسيح في تضحيته قبِل حتى العطش إلى الماء! وقولوا للمدخّنين التبغ المتلِفين أموالهم وصحتهم: إن المسيح في تضحيته قبِل حتى العطش إلى الماء! وقولوا للطامعين الذين يصِلون بيتاً ببيت ويقرنون حقلاً بحقل ( إشعياء5: 8): إن المسيح في تضحيته قبِل حتى العطش إلى الماء! لعلهم وهم يدّعون التديُّن يخجلون منه ويقتدون بشخصه " فكل الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" ( غلاطية 5: 24).

 

وقدم لنا مثالاً في:

العظمة الصحيحة:

كم مِن قائدٍ محارب سعى ليرفع شأن أمته باقتحام أوطان جيرانه، فضربهم برصاص المدافع وسموم القنابل، ونسي أن العظمة الحقيقية ليست في التدمير بل في البناء، وليست في الأخذ والاغتصاب بل في الإحسان والعطاء. بئست هذه العظمة الموهومة التي مقتها ذوو الألباب واستنكرتها كل الشعوب. ألم يحاول هتلر هذه المحاولة، فأين مقره الآن؟ وماذا أخذ القياصرة والغزاة والفاتحون وأين هم؟ فمتى يرجع الناس فيفهمون أن المجد والعظمة في الخدمة والتضحية ليس إلا، وأن من اتضع ارتفع.

فها المسيح بعريه وعطشه على الصليب كان يملك العظمة النفسية الحقيقية، وقد وصل إلى ذروة المجد والنفوذ الواسع على ملايين البشر في كل العصور والأمصار، وليس اليوم لمجده مثيل. وهو بهذا يعلّمنا أن قيمة الإنسان ليست فيما ملكت يمينه من الماديات، بل فيما يملك ضميره مِن الحق والبر. وحيث الضمير العامر بالحق والبر فهناك العظمة الصحيحة.

 

-4- مطلبه

عبَّرت صرخة المسيح "أنا عطشان" عن رغبات قلبه، فلما قال للسامرية " أعطيني لأشرب" (يوحنا 4: 7) كان يصبو وراء سؤاله أن يرتوي بخلاصها وخلاص شعبها، كما يرويها وهي وشعبها من نهر نِعَمه (مزمور 36: 8). ولا زال المسيح اليوم ينادي: " أنا عطشان" " أعطني قلبك" (أمثال 23: 26) " لذَّاتي مع بني آدم" (أمثال 8: 31) " " هأنذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشّى معه وهو معي" ( رؤيا 3: 20). إنه عطشان ليباركنا ولتكون له شركة معنا. فلا يجب أن نفعل ما فعل صالبوه بتقديم قلبٍ فاتر كالخل، بل لنسكب قلوباً مُخْلِصة يستريح لها قلبه.

ولا زال المسيح ينادينا اليوم في الفقراء: " أنا عطشان" ليحرك قلوبنا نحوهم. وكم من فقراء في حالاتٍ تعيسة من جوع وعطش وعري ومرض، يكلّمنا المسيح فيهم، لأنهم إخوته الأصاغر. فإن كنا نؤمن بقول الكتاب: " من يرحم الفقير يُقرِض الرب، وعن معروفه يجازيه" (أمثال 19: 17) فلماذا لا نملأ أيدي الفقراء، ونحن نشعر بعظم الواجب والشرف الناتج عن ذلك.  

ولا زال المسيح اليوم ينادى في الخطاة: " أنا عطشان". عطشان لخلاصهم. فهل من يسمع ويشارك مباهج خلاصه معهم، فيفرح هو وتفرح السماء بخاطئ يتوب     ( لوقا 15: 7)!

 

الكلمة السادسة

" قد أُكمل" (يوحنا 19: 30).

كلمة تملك الإفهام وتأخذ بمجامع القلوب، وتعبِّر عن الظفر وتُشعِر بالانتصار، وتنمُّ عن نصرةٍ هادئة وسط أهوال الموت، وترقَى قمم المجد فوق رابية الصليب، وتُطلِع صُبح الرجاء فتمحو ظلمات القنوط، وتتلألأ بنشوة الفرح وهزّة السرور، وتشفّ عن لذّة الوفاة وهناءة النجاح، وهي ختمٌ وتأمين على شؤونٍ جليلة تمَّ تنفيذها.

 

ففي تلك اللحظة الخطيرة التي فرغت فيها جعبة أعداء المسيح من سهامهم، وتلقّى المسيح منهم كل براهين حقدهم، بلغت الكفارة كمالها، ومِن ثمَّ أنجز المسيح الوعود وأتم العهود. فقد أكمل المشيئة الإلهية ونفذ قضاءها المحتوم، وأنهى شريعة الظلال والرموز لتفسح المجال لحقائق الفداء. وهكذا قضى المسيح على قوة الخطية وسلطانها، فصارت كأنها لم تكن، وودّع الألم ليستقبل المجد. فلما بلغ قمة هذا الانتصار، والصليب خلفه والمجد في انتظاره، هتف بصوتٍ عظيم " قد أكمل". فهذه الكلمة السامية جامعة شاملة لأمور عظيمة أُكمِلت في المسيح من كل جهة، سواء من جهة عداوة اليهود له، أو من جهة قصد الله فيه، أو من تتميم نبوات الكتب المقدسة عنه، أو إشارات الناموس الطقسي إليه، أو علاج خطية البشر به، أو انتزاع حياته منه، أو إنجاز عمل الفداء بواسطته.

 

ومن امتيازنا العجيب أن نشارك المسيح في أفراح الصليب، ونشاطره مباهج الفداء. فيحلو لنا أن نتأمل هذه الكلمة لنرى ما " قد أكمل".

 

-1- أكمل اليهود إثمهم:

بالصليب أطلق اليهود آخر طلقةٍ في جعبة عداوتهم للمسيح. فمنذ ظهوره بينهم لم يقبلوه. نبذوا تعليمه. جحدوا معجزاته. جدفوا عليه. وأخيراً قبضوا عليه مكبلاً بالقيود وساقوه للقضاء.

شهدوا عليه زوراً. وخزوا رأسه بإكليل الشوك. لطموه على خدّه. بصقوا على وجهه. نتفوا ذقنه. جلدوا ظهره بالسياط. ثقبوا يديه ورجليه بالمسامير. علّقوه على خشبة بين لصين. اقتسموا ثيابه حتى يموت عارياً ويُطرح من غير كفن. مثّلوا به شر تمثيل ونكلوا به أشنع تنكيل. وآخر الكل وهو في حشرجة الموت بخلوا عليه بنقطة ماء، وقدموا له الخل والمر وسط عاصفة من الهزء والتعيير. وهل كان في مقدورهم أن يعملوا شيئاً أكثر من هذا؟

 

وماذا فعل؟ ألم يعلن حق الله وبرّه؟ ألم يشفق على الإنسانية؟ ألم يفتح عيون العمي ويطهر البرص ويحيي الموتى؟ ألا يعادل كل هذا نقطة ماء تُقدَّم له وقت احتضاره؟

ألا فاسمعوا هذا أيها المظلومون و" تفكروا في الذي احتمل من الخطاة مقاومة لنفسه مثل هذه لئلا تكلوا وتخوروا في أنفسكم" ( عبرانيين 12: 3).

 

-2- أكمل القصد الأزلي:

لم يبغت الصليبُ المسيحَ من حيث لم يحتسبه، ولم يداهمه من حيث لم يتوقعه. بل كان هذا في تقدير الآب وبمقتضى علمه السابق. فقبل إنشاء العالم وقبل الأزمنة الأزلية كان الآب يُبدي مشورته لابنه المبارك، وقدَّم المسيح نفسه لله بروحٍ أزلي ليُطهّر ضمائرنا من أعمالٍ ميتة، لنخدم الله الحي (عبرانيين 9: 14) وعُرف أنه " حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يوحنا 1: 29) وكل الذين سيقبلون كفارته وفداءه هم " معروفون" و" معيَّنون" و " مدعوون" و " مبرَّرون" و " ممجَّدون" في المسيح منذ القدم (رومية 8: 29و 30).

أما وقد حانت الساعة فالأزمنة تشرف على الجلجثة لترى كيف يُكشف الحجاب عما سبق وترتَّب من " وعد الحياة التي في المسيح يسوع" (2 تيموثاوس 1: 1) و " الخلاص بمقتضى القصد والنعمة" ( 2 تيموثاوس 1: 9).

أجل إن المسيح نفّذ مشيئة الله بحذافيرها، وأطاع حتى الموت موت الصليب، ووجد في حلاوة الطاعة ما هوّن عليه مرارة الصليب (عبرانيين 12: 2). وما كانت طاعة إسحاق لأبيه وهو موثَق على المذبح إلا رمزاً بسيطاً لخضوع المسيح التام للآب، القائل: " استيقظ يا سيف على راعيّ وعلى رجل رفقتي، يقول رب الجنود"         ( زكريا 13: 7).

وما كانت محبة العبد الإسرائيلي لسيده، وقبوله أن يثقب أذنه بمثقبٍ علامة التطوٌّع للخدمة مدى الحياة ( خروج 21) إلا مثالاً ضئيلاً لمحبة المسيح وطاعته حيث قال   " هأنذا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله" ( عبرانيين 10: 9).

وإن كانت معصية آدم الأول صيَّرت الكثيرين خطاة، فمن دواعي سرورنا وتهليلنا أن طاعة " آدم الثاني" تصيّر الكثيرين أبراراً ( رومية 5: 19) فشكراً لله على عطيته التي لا تُعبَّر عنها ( 2 كورنثوس 9: 15).

 

-3- أُكمِل المكتوب:

إن نبوات ستة آلاف سنة تتحقق اليوم! إعلانات الأجيال الغابرة تتم كأن الأنبياء الذين تنبأوا بها كانوا شهود عيان، وجميع أخبار الآباء المتواترة وبلاغات الرائين المتتابعة عن المسيح تُنجَز بحذافيرها. لقد سبقوا ورأوا بعين النبوّة ما قد تحقق في ملء الزمان، فآدم رأى نسل المرأة يسحق رأس الحية (تكوين 3: 15). وإبراهيم رأى نسلاً تتبارك فيه جميع قبائل الأرض ( تكوين 12: 3)، وأيوب رأى وليّاً يقوم أخيراً على الأرض ( أيوب 19: 25) وداود رأى مسكيناً ثقبوا يديه ورجليه (مزمور 22: 16)، وإشعياء رأى عبد الرب مجروحاً من أجل معاصينا (إشعياء 53: 5)، وإرميا رأى غٌصناً يٌدعى " الرب برٌّنا" (أرميا 23: 6و 33: 16). ودانيال رأى مسيحاً يٌقطع ويأتي بالبر الأبدي (دانيال 9: 26)، وهوشع رأى إلهاً يجذب شعبه بحبال البشر ورُبُط المحبة ( هوشع 11: 4)، وميخا رأى مُدبِّراً يرعى شعبه، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل (ميخا 5: 2)، وناحوم رأى قدمي مبشّرٍ منادٍ بالسلام (ناحوم 1: 15)، وزكريا رأى يدَيْن مجروحتَيْن في بيت الأحباء (زكريا 13: 6)، وملاخي رأى شمس البر والشفاء في أجنحتها (ملاخي 4: 2).

وبالجملة فإن جميع النبوّات السابقة لم تسقط منها كلمة واحدة إلى الأرض، بل ويدهشنا أن نرى منها فقط ما تمّ في مدى الأربع والعشرين ساعة الأخيرة من حياة المسيح. فكل حركة أو سكون بين أفلاك السماء أو طبقات الأرض، وكل قول أو عمل بين أقطاب السياسة أو رجالات الدين، وكل صغيرة أو كبيرة مما أتاه المواطنون أو الأجانب، وكل شيء خطير أو حقير مما له علاقة بالصلب من الفضة بعددها، والثياب والاقتراع عليها، والخل وصورة تقديمه، والحربة ومن يُطعن بها، وخشبة الصلب وتوسُّطها بين اللصوص، إلى كل ما حدث في ذلك الوقت، إنما كان صورة مطابقة تمام المطابقة لكل ما هو مكتوب، مما دلّ على أن المسيح هو روح النبوّة، وأن فيه كل شيء " قد أكمل".

فإن كان كل شيء مكتوباً عن المسيح حتى " أُحصيت كل عظامه" (مزمور 22:  17 )  فذلك لنستحق نحن الوعد القائل: " إن جميع شعور رؤوسكم محصاة"         ( متى 10: 30)  وهذا يؤكِّد لنا عناية الآب السماوي التامة بنا حتى في أتفه أمورنا الطفيفة!

 

فإن كانت عين الله تكللنا من السماء، والأذرع الأبدية ترفعنا من تحت ( تثنية 33: 27)، فهل يوجد مع هذا موضع للخوف مما نسميه مفاجآت الحياة؟! وإن كانت أقوال الأنبياء عن اتّضاعٍ المسيح قد تمّت حرفاً بحرف، فلا بد أن تتم أقوالهم عن مجيئه ثانيةً بكمالٍ تام. وإن كان أهل العالم اليوم يتناسون مجيء المسيح ثانيةً وهم يلهون بالمادة، فلا بد أن يحضرهم المسيح بغتة، ويُجري قضاءه المحتوم، ومِن ثمّ نسمع الصوت للمرة الأخيرة يقول: " قد تمّ".

 

-4- أُكمل الناموس الطقسي:

أكمل المسيح بصليبه ناموس الأحكام والفرائض المؤقّتة، الذي استخدمه الله في إرشاد شعبه إلى الفادي كما يستخدم المعلّم الصور والرسوم في إرشاد الأطفال إلى الحقائق، فقد أعطى الله بني إسرائيل الناموس رمزاً وظلاً، لينشئ في الناس انتباهاً ورجاءً في الأشياء الأفضل. وقد كان ناموس موسى ألغازاً في ألغاز حتى كشف المسيح معناه وبيّن مغزاه. وبما أن الظلال يجب أن تفسح مجالاً للحقائق، فلا حاجة بعد للكاهن أن يربط الذبيحة بقرون المذبح، ولا حاجة بعد إلى دم الثيران أو شحم الكباش، ولا حاجة بعد للفصح، عيد أعياد اليهود، لأن " فصحنا المسيح قد ذُبح لأجلنا" ( 1 كورنثوس 5: 7) فصرنا بعد أن انحسر لثام الشَّبه عن الحقيقة نستمتع لا بظل الأشياء بل بحقيقتها وذاتيتها.

ولم يعالج المسيح ناموس موسى فقط إذ رفع لعنته وأكمل رموزه، بل عالج أيضاً أمر الإنسان كله، فالإنسان الأول صُنع من ترابٍ وسقط، والمسيح اليوم يصنعه جديداً ليحيا إلى الأبد!

 

إن نيابة آدم تبطل أمام نيابة المسيح، وعهد نوح لا يُذكر أمام عهد المسيح، ودم الذبائح لا يُقاس بدم المسيح، وهتافات اليوبيل تختفي أمام هتافات الإنجيل، ومباهج الأعياد لا تُحسب شيئاً أمام أفراح الخلاص، وراحة السبوت لا توازي سلام الروح القدس، والختان الظاهر في اللحم لا يحاكي ختان القلب بالروح، والأرض التي تفيض لبناً وعسلاً لا تعادل ميراث القديسين في النور.

 

أشار الهيكل بمحتوياته للمسيح الذي هو استعلان مجد الله، وكان كهنة العهد القديم إشارة لرئيس كهنتنا الأعظم، ورَمَز ملوك بني إسرائيل إلى ذاك الذي ليس لملكه انقضاء، ورَمَز أنبياء التوراة لخدمة ذاك الذي هو كلمة الله ورسم جوهره. فالمسيح إذاً هو الكل في الكل، وفيه يقوم الكل (كولوسي 1: 17) وبه كل شيء " قد أكمل".

 

-5- أُكمل شرُّ البشرية:

" قد أكمل" شر البشرية، أو كما قال النبي دانيال عن ذلك بروح النبوّة: " جاءت نهاية الإثم ليؤتَى بالبرّ الأبدي" ( دانيال 9: 24).

لقد سادت الخطية على الأرض منذ البدء، فنزلت مياه الطوفان ولم تقدر أن تمحو الخطية (تكوين7)، وسقطت النار من السماء ولم تقدر أن تحرقها (تكوين 19)، وفتحت الأرض فاها ولم تقدر أن تبتلعها ( العدد16)، وجاءت الشريعة برعودها ولم تقدر أن تزعزعها ( الخروج 19)، وثارت الحروب العاتية بما فيها من سبيٍ ونفي ولم تقدر أن تنفيها. ولم تزل الخطية تنمو حتى تجاسرت وسمَّرت مُعطي الشريعة على خشبة. ولكن الخطية جُرحت في تلك المعركة جرحاً مميتاً، فصار المسيح الذبيح ذابحاً، ومَن ظنّوه المغلوب غالباً (عبرانيين 2: 14)‍!

أجل إن الخطية دخلت إلى العالم، وسادت بالألم والموت فسطت وصالت صولتها، وليس من يقدر أن ينتصر ضدها (رومية 5: 12). ولكن جاء حمل الله الذي يرفع خطية العالم، فنقضها وأبطلها وأماتها وأزالها نهائياً، وأخضعنا لحكم البر والحياة (رومية 5: 15). وهكذا وُجدت الينابيع المفتوحة في بيت داود للتطهير من الخطية والنجاسة( زكريا 13: 1)، وعُقد بدم الصليب عهد للصفح عن الخطايا السالفة، فإذا الأشياء العتيقة قد مضت، وكل شيء قد صار جديداً (2 كورنثوس 5: 17)!

لقد سُمّر صك خطايانا بالمسامير (كولوسي 2: 14) وكُتب لنا بحروف حمراء صك البراءة من الخطية من حيث جرمها وقوتها وقصاصها! صُلبت الخطية بالصليب، فتحقق قول المسيح: " والآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً" (يوحنا 12: 31). كانت الخطية حلقة اتصال بين الشيطان والبشر، والآن كُسرت تلك الحلقة، وانفكت تلك الرابطة وتمّ الوعد: " وأنا إن ارتفعتُ عن الأرض أجذب إليَّ الجميع" ( يوحنا 12: 32).

 

-6- أُكملت حياة المسيح على الأرض:

عندما شعر المسيح بأنفاسه الأخيرة، أدرك أن مرحلة التجسد، بكل ما فيها من اتضاع، توشك أن تنقضي، فطابت نفسه وفرح. كيف لا وقد مرّت زوبعة الآلآم وصار الجو صافياً، وعبر بحر الأهوال وها هو يصل إلى شاطىء المجد منتصراً، وقطع آخر مرحلة في سياحته الأرضية واقترب إلى الوطن السماوي، وأتمّ الجهاد، وتوقّفت رحى الحرب مسفرةً عن انتصارٍ باهر، وأُكمل السعي ولاحت أكاليل الفوز المبين، وأُسدل الستار على شقاوة الأرض، وكُشف النقاب عن سعادة السماء. لقد صار بينه وبين الفردوس خطوة، فستستقبله أمجاد الأزل. وما أحلى قوله الذي ينمّ عن يقين ويشفّ عن ارتياح: " بعد قليلٍ لا يراني العالم أيضاً، وأما أنتم فترونني. إني أنا حيٌ، فأنتم ستَحيون" ( يوحنا 14: 19).

فإذاً أيها المؤمنون لا بد من بلوغ النهاية ومسك الختام، فإن " آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا" (رومية 8: 18).

 

-7- أُكمل الفداء:

" قد أكمل" الفداء، وأفرغ المسيح الإنسان في قالب الجمال من جديد. صحيح أن الإنسان سقط سقوطاً لا قيام منه، ولكن جاء الفادي والولي واحتمل عنا كل ما يجب أن نحتمله، ودفع الثمن دماً زكياً كريماً، وأصبحنا في حِلٍّ من خطايانا السالفة، وهو يقول لنا: " أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها" (إشعياء 43: 25). وأصبح الفداء من حيث هو عمل الله بالمسيح وليمة مهيأة جاهزة كاملة لا يحرمنا منها أحدٌ، إلا إذا تأخرنا. لذلك يقول: " اليوم ان سمعتم صوته فلا تقسُّوا قلوبكم" ( مزمور 95: 7- 8 عبرانيين 3: 8).

والفداء من حيث حصولنا عليه هو ماضٍ وحاضر ومستقبل. فبالنسبة للماضي ننال غفران كل ما فات. أما في الحاضر فنحصل على التجديد والتقديس والسلام، أما في المستقبل فنحصل على قيامة الأجساد وحياة الدهر الآتي. لقد تمت الكفارة واستراح المسيح من عملها، وأصبحنا ننال الفداء باستحقاقها ونحن مغتبطون بعمل المسيح لأجلنا " هذه هي الراحة. أريحوا الرازح" ( إش 28: 12).

 

***

وفي الختام لا يسعنا إلا أن نبدي مقدار تأثير كلمته " قد أُكمل" في نفوسنا:

 

1- فأول حقيقة ظاهرة ملموسة تمتلك مشاعرنا هي الإقرار بلاهوت المسيح، فإن موته الأليم كان في نظر أعدائه قاضياً على حياته، وكافياً أن يقوّض حصون دعواه أنه المسيح ابن الله، وأن يفصم عُرى مقاصده في اكتساب البشر إليه. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، بل صرح وهو قرير النفس ناعم البال أن كل شيء " قد أُكمل". فقد وفى عهده وفدى خليقته.

 

2- وثاني حقيقة رائعة تسود على قلوبنا هي قبول خلاص المسيح الكامل كما هو، فليس علينا أن نضيف على عمله شيئاً، لأن عمله كامل، والكامل غير قابل للتحسين أو التكملة، فليس علينا أن نكفّر عن سيئاتنا باحتمال الآلآم أو نشتري غفران خطايانا بالأعمال الصالحة، فكل هذا عيب في حق الصليب. إنما علينا فقط قبول هذا الخلاص بإيمانٍ كامل، ينشىء فينا فرحاً به وحباً له.

 

3- وثالث حقيقة ترتسم في ذهننا وتنطبع على أفئدتنا هي تكريس نفوسنا للمسيح. فهو له المجد قدّس نفسه لأجلنا وأكمل كل شيء بلا تفريط، وجاد بكل نقطة من دمه، فخليق بنا أن نكرس أجسادنا ذبيحة حية مقدسة مَرْضِيّةً عند الله، عبادتنا العقلية (رومية 12: 1).

 

4- وآخر حقيقة أذكرها، نعجب بها ونصبو إليها هي الأمانة حتى الموت، فقد كان المسيح ثابتاً إلى النهاية، ولم يتراجع أمام آلة الإعدام، ولم ينزل عن الصليب حتى أكمل ما عليه، فمن الشرف الأعظم أن نتحلى بحليته ونتّسم بسمته، فنكون أمناء في محبة الحق والقيام بواجب الخدمة إلى الموت فننال إكليل الحياة (رؤيا 2: 10).

 

الكلمة السابعة

" يا أبتاه، في يديك أستودع روحي" ( لوقا 23: 46).

هذه هي آخر الكلمات العزيزة التي نطق بها المسيح على الصليب، ويعتبر ما تضمَّنته من حقائق إحدى دعامات الإيمان المسيحي. فقد أخذ المشاهدون للمسيح المصلوب يُعيّرونه ويستهزئون به ويُنكرون أنه ابن الله. ولكنه وسط كل هذه المفتريات لم يتردد عن أن يعلن أصله الإلهي فنادى: " يا أبتاه".

صحيح أنه كان يشرب كأس الموت، لكنه لم يكن يستشعر خشية ولا يرهب شراً، بل يقول في ملء الهدوء وبكامل الطمأنينة: " في يديك أستودع روحي". قالها بقوة وثقة، لأنه بذل نفسه عن البشر الخطاة بمحض إرادته، وهو القائل عن حياته: " ليس أحدٌ يأخذها منّي، بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطانٌ أن أضعها، ولي سلطانٌ أن آخذها أيضاً" (يوحنا 10: 18).

مات المسيح وقد نكس الرأس علامة الطاعة للآب، وليضم جسده إلى الأرض التي أحب سكانها. فالرأس المكلل بالمجد والعز ينحني الآن في إكليل من الشوك أمام الموت.

مات المسيح في السنة الخامسة عشرة لسلطنة طيباريوس قيصر في السنة السبتية، في الشهر الذي يُعتبر رأس الشهور العبرية، في اليوم الذي قدم فيه الفصح. وبينما كانت ألوف الحملان تُذبح كان الحمل الحقيقي يجود بدمه وبنفسه من أجلنا. فكان موته بداءة حياة وراحة وعيد للجنس البشري.

مات المسيح رب المعجزات، فلا عجب أن انشقّ حجاب الهيكل وتزلزلت الأرض وتشققت الصخور وتفتحت القبور وقام كثير من أجساد الراقدين. وجميع الذين كانوا مجتمعين لهذا المنظر رجعوا وهم يقرعون صدورهم قائلين: " سحقا كان هذا الإنسان باراً" ( لوقا 23: 47و 48).

مات المسيح رئيس الحياة فهل تُطوَى صحيفته ويلحق بغيره من البشر؟ لا !! فقد استودع نفسه بطمأنينة مطلقة في يد الآب ليقوم في اليوم الثالث. فترون من هذا أن كلمته الأخيرة برهان واضح على ثقته الوطيدة بالآب، وحجة دامغة عن نظرته للموت، وشاهد صادق عن سلامه التام.

 

-1- ثقته الوطيدة بالآب

 

في أتون الألم لم يعترِ المسيح شك من جهة صلته بالآب، بل نراه يسلم نفسه إليه في طاعة كاملة وخضوع كلي. كانت أول كلماته على الصليب: " يا أبتاه" وآخر كلماته: " يا أبتاه". فكان الله ملء تفكيره ومطمع نفسه في البدء والختام. وقد اقتبس المسيح كلمته الأخيرة من أقوال داود النبي حيث قال: " في يدك استودع روحي. فديتني يا رب إله الحق" (مزمور 31: 5) فاقتبس المسيح الجزء الأول من آية داود ولم يقتبس آخرها، لأن داود كان محتاجاً للفداء، أما ابن داود فهو صانع الفداء! وهناك فرق آخر: لم ينادِ داود الله " يا أبتاه" مع أن الله سمح له أن يدعوه " أباً" كما هو مكتوب في مزمور 89: 26 " هو يدعوني أبي. أنت إلهي صخرة خلاصي" وأما المسيح فقد أضاف كلمة " يا أبتاه" على الاقتباس مبرهناً نسبته ومقامه الإلهيَّين. فخليقٌ بنا أن نحذو حذو المسيح في هذا، فنتمسك بالرب الإله القادر على كل شيء، ونؤمن أن    " عند الرب السيد للموت مخارج" ( مزمور 68: 20) وأنه " الذي يحيي الموتى، ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة" ( رومية 4: 17).

وبهذا الإيمان نجتاز ساعتنا الأخيرة، ساعة الاحتضار وقد سلَّمنا أنفسنا لله بثقة تامة. أليس هو خالقنا وأب نفوسنا وقد ختمنا بروحه القدوس؟ فكيف مع هذا لا يفتح أمامنا أبواب المجد؟ إننا أعضاء جسد المسيح وهو رأسنا، ونحن لحم من لحمه وعظم من عظمه ( أفسس 5: 30) فنحن مستودَعون فيه في يد الله، وهو إذ أحبنا نحن خاصته أحبنا إلى المنتهى ( يوحنا 13: 1)، وليس كما يحب أهل العالم في أوقات النجاح فقط. إنه يحبنا حتى ذهب جمالنا وضاعت قوتنا وعلانا التراب! أليس هو القائل:     " إلى الشيخوخة أنا هو، وإلى الشيبة أنا أحمل. قد فعلتُ وأنا أرفع وأنا أحمل وأنجّي" (إشعياء 46: 4).

  

-2- نظرته للموت

 

آراء الناس:

يرى جماعة من الناس ( ويُطلق عليهم غالباً اسم الطبيعيين) أن الإنسان يفنى بفناء جسده، وبناءً على هذه النظرية الخاطئة ينكرون الله والوحي والفضيلة والثواب والعقاب. فمنهم من ينهمك في الشهوات وينعِّم نفسه بملذّات الحياة الحاضرة كالأبيقوريين، ومنهم من يتعثر في أذيال اليأس وتضيق في وجهه مسالك الدنيا ولا يعرف لها معنى، فيحبّذ الانتحار كالرواقيين، ومنهم من يصل في ختام مطافه إلى الاقتناع بعدم كفاءة العقل البشري فيأتي متضعاً ليتعلّم من الله تعليماً يمنح الإنسان حياةً خصيبة، ومعرفةً للحق وسلوكاً في البر وتمتّعاً بالسلام، فضلاً عما يمنحه من يقين ورجاء في سعادة الخلود وراء هذه الحياة!

إن الروح شيء والحياة الحيوانية شيء آخر، فالروح كائن حي عاقل خالد، ويمكن وجودها مع الجسد كالحال مع سائر البشر، أو منفصلة عنه كالحال مع الله تعالى والملائكة. وعندما يموت جسد الإنسان " تخرج روحه فيعود إلى ترابه" ( مزمور 146: 4) " يرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الله الذي أعطاها" (جامعة 12: 7).

 

اختبار المسيح:

بعد أن أتمّ المسيح مقاصد حياته وأنهاها " اسلم الروح". وكان هذا آخر وأعلى برهان عن بشريته الكاملة، وبما أنه صرف حياته تامة كاملة لأجل تقديس الناس، فلأجل فدائهم وضع حياته الطاهرة الكاملة على مذبح الموت ليكفر عنهم. وهكذا انطفأت شعلة الحياة بانفصال الروح عن الجسد، فاستودع جسده في بطن الأرض، واستودع روحه في يد الآب!

 

رأي المسيح:

التعبير الذي عبَّر به المسيح عن الحالة والمكان اللذين تكون فيهما روحه هو تعبير جدير بالالتفات، فقد قال: " في يديك أستودع روحي". فالروح إذاً وديعة! والموت توريد الوديعة إلى صاحبها! ويد الآب هي المرفأ الأمين للحفظ والأمن!

 

عندما تكون عندنا أشياء ثمينة لا نقدر على حفظها بأنفسنا، نستودعها عند شخص تُشترط فيه شروط ثلاثة: أن يكون قوياً، وأن يكون حكيماً، وأن يكون محباً. أما أن يكون قوياً فلكي يحميها من أن تعبث بها يد اللصوصية، وأما أن يكون حكيماً فلكي يتصرف بها حسناً فيستزيدها ويستثمرها، وأما أن يكون محباً فلكي يردّها إلينا سالمة وزائدة. قال المسيح: " كل مَن أُعطي كثيراً يُطلب منه كثير، ومن يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر" ( لوقا 12: 48). ومعلوم أنه ليس عند الإنسان أثمن من نفسه، وليس لنا شخص أقوى وأحكم وأكثر حباً لسعادتنا من الله تعالى.

أما عن قدرته فقد قال فيها الرسول بولس: " لأنني عالِم بمن آمنت، وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم" ( 2 تيموثاوس 1: 12). فإذا انتشرت الأوبئة، أو نشبت الحروب، أو اشتد ظلم الإنسان على أخيه الإنسان فالنفس لا يقدرون أن يقتلوها لأنها وديعة في ذمة الله!

وأما عن حكمته فما أكثر غناها، فهو لم يخلقنا للعبث والفناء بل للبعث والبقاء، وهو " ليس إله أموات بل إله أحياء" (متى 22: 32). وإن كانت أرواحنا وهي سجينة في الجسد المادي يكللها بالمجد والكرامة، فماذا يفعل بها عندما تكون بين يديه وتراه وجهاً لوجه؟ قال أيوب: " أما أنا فقد علمتُ أن وليّي حيٌ والآخِرَ على الأرض يقوم. وبعد أن يُفنى جلدي هذا، وبدون جسدي أرى الله. الذي أراه أنا لنفسي، وعيناي تنظران وليس آخر. إلى ذاك تتوق كليتاي في جوفي" ( أيوب 19: 25- 27). وقال بولس الرسول: " لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جداً" ( فيلبي 1: 23). فلا بد أن النفس تمتلىء راحة وعزاء وتزيد مجداً وهناءً، لأنها وديعة في ذمة الله.

وأما عن محبته فلندع الصليب يتكلم عن قوتها. وبما أنه " عزيز في عيني الرب موت أتقيائه" ( مزمور 116: 15) لذلك سيرد الوديعة مزوَّدة بالربح " تحيا أمواتك. تقوم الجثث. استيقظوا ترنَّموا يا سكان التراب" ( اشعياء 26: 19). وأي ربحٍ للروح أكثر من أن تلبس جسداً سماوياً قوياً مجيداً بعد أن كانت تلبس جسداً ترابياً ضعيفاً مُهاناً.

سلَّم المسيح وديعته للآب، فرُدَّت إليه في مظاهر القوة والانتصار في اليوم الثالث. فأين شوكة الموت، وأين غلبة الهاوية؟ (1 كورنثوس 15: 55). " فإذاً الذين يتألمون بحسب مشيئة الله فليستودعوا أنفسهم كما لخالقٍ أمين في عمل الخير"    ( 1 بطرس 4: 19). فينبغي أن نكون أمناء للرب، فكما أن المصارف لا تقبل ودائع من عملة زائفة، كذلك لا يقبل الرب أن يحفظ نفوسنا غير التائبة. وإن كنا لا نجسر أن نستودع عقاراً سبق أن تصرّفنا فيه بالبيع لآخرين، لئلا نقع في جريمة التزوير، فكيف نستودع أنفسنا في يد الله في الوقت الذي نضع فيه أنفسنا بمحض إرادتنا في حيازة الشيطان؟

 

-3- سلامه التام

 

خوف الإنسان:

الإنسان في عبودية قاسية. ألا نرى كيف نمضي حياتنا في خوف مستمر من الموت، وأخيراً نُساق إليه مرغمين، فنخضع له كرهاً أو طوعاً؟ فالموت جاثم لنا في كل بقعة، وهو يفاجئنا من أبواب شتى وطرق عدة. وسواء حملنا صولجانات الملوك أو معاول الفلاحين، فسيأتي الموت ويأخذنا من فوق الأرض إلى تحتها! فكيف لا نخشاه وبأي وجه نسلم له؟

 

سلام المسيح:

لقد أنار المسيح أمامنا الطريق، فقابل الموت بثغر باسم وصدر رحب. كيف لا وهو الله الذي دخل العالم طفلاً وديعاً وخرج منه إنساناً مائتاً. وكان الوحيد الذي دخل العالم بإرادته وخرج منه بإرادته. أما الإنسان فليس له سلطان على روحه يحيا أو يموت. ولكن المسيح قدم نفسه للموت باختياره، وقال في ذلك: " ليس أحدٌ يأخذها مني. لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً" ( يوحنا 10: 18).

يستحق الخاطىء أن يموت، ولكن المسيح أحنى رأسه من تلقاء نفسه للموت الذي لم يكن له سلطان على جسمه الخالي من الخطية. لقد جعل لذته فينا " فوضع نفسه حتى الموت" (فيلبي 2: 8) " وجعل نفسه ذبيحة إثم" (إشعياء 53: 10) " وبذل نفسه عن الخراف" (يوحنا 10: 11)  " لأنه لم يأت ليُخدم بل ليَخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مرقس 10: 45). ولما أحس أنه على أبواب السماء غمرته إحساسات بهيجة، ولسان حاله يقول: " من عند الله خرجت وإلى الله أمضي"!(يوحنا 13: 3).

أجل. لقد مضى ليُعِدّ لنا مكاناً، ونحن نسير وراءه ونجري في طريقه. فكيف نحزن وقد ارتقينا من الأرض إلى السماء، وقد انكشف القناع عن حقيقة الموت فإذا به وإن أخذ شكل الخسارة إلا أنه عين الربح!

        

***

 

ويلقي ظل الصليب نوراً باهراً على الحياة والموت والأبدية، وإنها سعادة لا توصف أن سير في هذا النور! فصليب المسيح هو كرسي تعليمه، ومنه نتعلم كيف نصرف الحياة باستقامة لتكون أبديتنا سعيدة، فنحن مسؤولون عن أنفسنا، فإن استودعنا أنفسنا لله هنا نجدها هناك. ومن يقف بالإيمان بين يدي الرحمة هنا لا يُدان بالخطية بين يدي العدل هناك.

وأما عن الموت فالصليب يعلمنا كيف نلاقيه بثقة وجرأة واعتماد على الله. فالمسيح لمس طبيعتنا البشرية حتى في موتنا وترك لنا مثالاً، ذاك الذي تخجل الملائكة من وجهه أحنى رأسه لنحني نحن رؤوسنا للموت صابرين ومسَلِّمين لمشيئة الله.

وأما عن الأبدية فالصليب يكشف لنا عن حياةٍ لا تفنى وراء القبر. لقد استهان المسيح بعار الصليب لأنه نظر للرجاء الموضوع أمامه (عبرانيين 12: 2). ونحن بسبب معرفتنا أن الله خالقنا وفادينا نؤكد أن عنايته بنا في الحياة الحاضرة لا تتغيَّر بتغيُّرنا بالموت! فكما تغيب الشمس على رجاء الشروق، وتذبل أوراق الشتاء على رجاء ازدهارها في الربيع، كذلك نحن نموت في المسيح على رجاء القيامة. وكما تتحوّل الخرق البالية إلى أوراق لامعة، والرمل المهمَل إلى زجاج وبلور، وكما تموت البذور لتستحيل إلى نبات أخضر، وتتكسر قشور البيض لتخرج عصافير ذات أجنحة، وتُدفن الدودة في الشرنقة لتقوم فراشةً جميلةً، كذلك نحن نموت في المسيح لنقوم أخيراً في مجدٍ لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان.

" في وقت مقبول سمعتك وفي يوم خلاص أعنتك هوذا الآن وقت مقبول هوذا الآن يوم خلاص." ( 2 كو 6: 2). 

 

المسابقة

 

عزيزي القارىء

 

إن قرأت هذا الكتاب بتفكير وتأمل سيسهل عليك إجابة الأسئلة التالية. سنرسل إليك أحد كتبنا جائزة لك على اجتهادك، إن أرسلت لنا الإجابة. لا تنس أن تكتب اسمك وعنوانك بوضوح، داخل الرسالة وليس على المظروف الخارجي فقط.

 

1- اكتب الكلمات السبع التي قالها المسيح على الصليب مع شواهدها.

2- وصف المؤلف الكلمة الأولى على الصليب بأوصافٍ كثيرة. اذكر ثلاثة أوصاف منها.

3- اكتب صلاة الشهيد المسيحي الأول استفانوس وهم يقتلونه، مع شاهدها.

4- ما هي الحُجّة التي قدّمها المسيح للآب ليصفح عن صالبيه؟

5- ماذا تعلّمت من صلاة المسيح:" اغفر لهم يا أبتاه"؟

6- ما هو الفرق بين اللصين اللذين صُلبا عن يمين المسيح ويساره؟

7- ما هما الشيئان الحُرَّان في اللص التائب، وكيف استخدمهما؟

8- كان وعد المسيح للص التائب عاجلاً. اكتب وصفاً لذلك.

9- كيف حقّق المسيح للص التائب فعّالية الاسم " عمانوئيل"؟

10- ما معنى كلمة " فردوس"؟

11- اكتب وصفين للموصِى في كلمة المسيح الثالثة على الصليب.

12- اكتب وصفين للموصَى في كلمة المسيح الثالثة على الصليب.

13- اكتب وصفين للموصَى بها في الكلمة الثالثة على الصليب.

14- في الكلمة الرابعة نجد أسراراً عميقة. اكتب عن اثنين منها.

15- نتعلم دروساً من الكلمة الرابعة. اذكر درساً منها.

16- هناك نبوءة في التوراة عن عطش المسيح. اذكرها مع شاهدها.

17- أوضح قول المسيح " أنا عطشان" عن عمله. ما هو عمله؟

18- أين نجد العظمة الصحيحة؟

19- كيف أُكمل قصد الله الأزلي في الصليب؟

20- اذكر نبوءتين أُكملتا في الصليب، مع شهادتهما.

21- كيف أُكمل الفداء بالصليب؟

22- اذكر أربع حقائق رائعة قدمها المؤلف في ختام تعليقه على كلمة المسيح السادسة على الصليب.

23- في الكلمة السابعة عبَّر المسيح عن ثقته في الآب. اشرح.

24- لماذا يخاف الناس من الموت؟

25- لماذا لا يخاف المؤمن بالمسيح من الموت؟