الحياة الفضلى

مركز الدراسة بالمراسلة

المحتويات: العدد 3 

 

وِلادَةُ المَسِيحِ المُبَارَكَة

(رواية عن أحداث تاريخية حقيقية)

 

علامة الملاك المدهشة للرعاة المتبدّين المجوس مِن المشرق ونجمهم الهادي

(تأملات في آيات مِن الكتاب المقدّس)

 

طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ وَيَحْفَظُونَهُ

 (من كلمات المسيح حسب البشير لوقا 11، 28 )

 الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا , وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً

شهادة يوحنّا عن يسوع المسيح

(يوحنّا 1: 14) 

 

سلسلة التأملأت، العدد الثالث

الطبعة الاولى  2005

 

الحياة الفضلى

ص. ب. 226- مزرعة يشوع - المتن - لبنان

www.hayatfudla.org

 

وِلادَةُ المَسِيحِ المُبَارَكَة

قُومِي اسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ وَمَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ.

لأَنَّهُ هَا هِيَ الظُّلْمَةُ تُغَطِّي الأَرْضَ وَالظَّلاَمُ الدَّامِسُ الأُمَمَ.

أَمَّا عَلَيْكِ فَيُشْرِقُ الرَّبُّ، وَمَجْدُهُ عَلَيْكِ يُرَى.

فَتَسِيرُ الأُمَمُ فِي نُورِكِ، وَالْمُلُوكُ فِي ضِيَاءِ إِشْرَاقِكِ.

(اشعياء 60: 1-3 ).

قبل ألفيّ سنة، في زمن القياصرة والرّومان ، كانت قافلة تسير على ضفاف وادي الأردنّ العميق، وفيها تجّار وفلاّحون وصنّاع مِن منطقة الجليل الجبلي، وكانوا سائرين نحو الجنوب في فصل الشتاء القارس . وقد فضّلوا المسير في هذا الوادي لدفئه بدلاً مِن طريق الجبال الوعرة الّتي تعصف بها الرياح ويكمن فيها قُطّاع الطرق. وكان خوف يخالطه غضب بادٍ على المسافرين، ينمّ عليه سيل الشتائم الّتي كانت تسمع وهم يكيلونها على قيصر روما، الّذي أمر باجراء إحصاء عام يشمل جميع السّكان في إمبراطوريته الواسعة لكي يضبط جباته الضرائب ويجمعوها، فكان على كلّ مواطن أن يتواجد في بلده ومسقط رأسه.

لقد كان الرّومان بحاجة ماسّة إلى المال مِن أجل تجهيز الجيوش وشقّ الطرق ودفع الرواتب وبناء المسارح لإقامة المهرجانات. فكانت الشعوب المستضعفة المستعبدة لهم تدفع هذه التكاليف وهي خاضعة للجزية عن جميع مقتنياتها حتّى بهائمها وأشجارها، فعظم الحقد و اللّعنة في قلوب الكثيرين. كان مِن بين المسافرين في تلك القافلة نجّار مِن بلدة الناصرة اسمه يوسف تصحبه خطيبته مريم الّتي كانت حاملاً في شهرها الأخير، وما كانا يودّان السفر الشاق لمدة ثلاثة أيام في مثل ظروفهما لولا ذلك الأمر الروماني الجائر لاكتتاب جميع المواطنين.

ولم يكن يوسف على علم أين ينزل في بيت لحم بلدته الاصلية، إذ لم يكن له فيها قريب يلجأ إليه. فابتدأ رحلته بِاسم الله والإتّكال عليه.

أمّا مريم خطيبته فكانت وهي معهم في دنيا غير دنياهم وفي عالم غير عالمهم. كانت مشدودة نحو العلاء كمن يناجي ويتأمل. وقد انشغل فكرها بالخبر الغريب الفريد الّذي حمله إليها الملاك البّراق الّذي أعلن لها بأنّ الرّوح القدس يحلّ عليها وقوّة العليّ تظلّلها وهي عذراء، فلذلك سيكون المولود منها قدّوساً في ذاته. يا لعمق فكر الله وتدبيراته. فمع أنّ مريم لم تدرك أعماق وأبعاد هذا الكلام ولم تسبر غوره إلاّ أنّها استسلمت بثقة وتقوى لارادة العليّ قائلة: هوذا أنا أَمَة الربّ.

تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللَّهِ مُخَلِّصِي

( لوقا 1: 46 - 47)

وصلت القافلة مدينة أريحا التاريخية فاستراح ركّابُها بين النخيل بالقرب مِن نبع أليشع في ضواحي المدينة وشربوا مِن مائها العذب المتفجّر مِن بين الصخور وسقوا دوابهم. وبعد تناول زاد طفيف وقيلولة يسيرة جدّدت نشاطهم، تابعوا رحلتهم عبر صحراء لاهبة جرداء خبت منها الحياة إلاّ ما ندر. وعلى يسارهم لمعت مياه البحر الميت الكبريتيّة كسراب يحسبه العطاش يروي غليلاً . وما أن خرجوا مِن تلك الصحراء وبدأوا في تسلّق الجبال الّتي في الارتفاع تدريجياً حتّى ابتدأوا بصلوات وترانيم :

أَرْفَعُ عَيْنَيَّ إِلَى الْجِبَالِ. مِنْ أَيْنَ يَأْتِي عَوْنِي؟
 2 مَعُونَتِي مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ،
صَانِعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.

لاَ يَدَعُ رِجْلَكَ تَزِلُّ. لاَ يَنْعَسُ حَافِظُكَ.
(مزمور 121: 1 - 3).

وبعد صعود في الوعر والأودية. تلألأت القباب والأبراج مِن بعيد فوق جبل الزيتون رجاء المسافرين. فلاحت على شفاههم ابتسامات تحوّلت إلى أدعية وصلوات. وقبل دخولهم إلى الرحاب المقدّسة استراحوا قليلاً في بيت عنيا ثم شدّوا رحالهم وداروا مع الطريق حول قمّة الجبل، فرأوا القدس العظيمة المنبسطة أمامهم وسط أسوارها، فانحدروا إليها وسط صحن الهيكل العظيم.

وهنا ثارت شجونهم واشتعلت أفئدتهم حزناً، وعلت الشكوى في نفوسهم وعلى ألسنتهم، وتساءلوا: هل تركنا الله وأسلمنا للرومان يذيقوننا سوء العذاب؟ هل نسي الربّ وعوده وعهوده لنا؟ آه، مَتَى يا ربّ تردّ سبينا؟ مَتَى يأتي المسيّا ويقيم قرن خلاص لنا؟

لم يطل يوسف ومريم مكوثهما في القدس، بل عبرا شوارعها المزدحمة بالسيّاح، والمكتظّة بالحجّاج، واتّجها شطر بيت لحم البلدة الّتي ينتسبان إليها مِن جدّهما الأكبر داود النّبي الملك. وكانا وهما يسيران يحسّان بدافع أقوى من أمر القيصر يحثّهما نحو المدينة، بحيث لم يعيرا انتباههما إلى جمال تلك الرّبى أو إلى ثغاء الأغنام وأصوات البهائم المختلفة.

ونظراً لأهمية القرية الصغيرة وعراقتها وكثرة ذرّية الملك داود النازحين عنها قبلاً، والوافدين إليها آنذاك، فقد غصّت شوارعها بالمارّة وامتلأت أزقّتها بالوافدين إليها وضاقت بيوتها وفنادقها بالنّزلاء والقادمين، الأمر الّذي أدىّ ببعضهم أن يلجأوا إلى الكهوف والمغاور المجاورة ليناموا فيها حتّى ينتهي الاكتتاب أو يجدوا لهم مأوى آخر.

لم يجد يوسف ومريم مكاناً في بلدتهما ليبيتا فيه فالتجأا إلى مغارة في الحقول المجاورة، كانت مأوى للبهائم وقطعان المواشي. فاضطجعت مريم لتستريح مِن عناء السفر. فجَاءها المخاض منبئاً بقرب الوضع، فهبّ يوسف مضطرباً جزعاً على خطيبته وأخذ يدور حول نفسه لافتقارهما لما يحتاجانه في مثل ظروف مريم العصيبة .

وأما مريم فكانت هادئة مطمئنّة ما خلا فكراً اقتحم ذهنها، فتمتمت به شفتاها هل سألد هنا في الإسطبل يا ربّ؟؟ ألم  يقل الملاك لي بأنّ مولودي هو قدّوس مجيد؟؟ ولكن كان الإيمان يغمر قلبها، والنّعمة كانت تنعش روحها فاستسلمت بثقة لارادة الله، فلأجل إيمانها تحقق ما نطقت به سابقاً بتأثير الرّوح القدس: ها منذ الان تطوّبني جميع الأجيال. لقد تأثّر يوسف مما رأى فزال اضطرابه، ورفع قلبه نحو الله مصلياً . وأشارت إليه مريم، فناولها ربطة مِن الاقمطة واللفائف، كانت قد جلبتها معها. وأخذ هو في إعداد مذود حقير وجده في المغارة فوضع فيه القشّ والتبن وقرّبه إلى مريم فرتّبته، وغطتّه بقطعة قماش نظيفة. وبعد قليل ولدت بكرها العجيب مشتهى الأمم ورجاء العالمين.

إن سيّد الكون الّذي ليس عنده تغيير ولا ظلّ دوران، بعدما كلّم الأباء بالأنبياء، رأى، لمّا جاء ملء الزمان ضرورة إعلان السرّ الّذي كان مكتوماً منذ الأزمنة الأزلية. فالله ظهر في الجسد وحلّ وسط مخلوقاته ليفتدي جميع الساكنين في ظلال الموت ويهبهم الحياة الأبديّة.

لقد أرخى الليل سدوله على بيت لحم وروابيها. فآوى كلّ حيّ إلى مهجعه إلاّ فرق الرعاة المتبدّين في البراري، فإنّهم عادة يتناوبون السّهر على قطعانهم في زرائبها حول نار يؤجّجونها وبها يصطلون اتّقاء للبرد، ويتسامرون بين ترجيع الناي وأنين الرباب، يتذكّرون المغامرات والقصص الشعبية عن شمشون الجّبار وداود الملك وغيرهما. فقادهم السمر إلى ذكر الرومان وكيف أذلّوهم ودنّسوا شرفهم ومقدّساتهم، فخيّم عليهم الغمّ والحزن وشاب أحاديثهم الأسى فترنّموا مع النّبي في أيامه الحالكة:

اَلشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُوراً عَظِيماً.

الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلاَلِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ

(اشعياء 9: 2)

وفجأة انفتحت السماوات ولمع حول الرعاة نور وضياء، كأنّما البرق أضاء اللّيل البهيم، فأضحى وكأنّه نهار بلا شمس، فبهرهم وأدهشهم، ومما زاد خوفهم ورعبهم ظهور ملاك الرب أمامهم واقفاً ينظر إليهم بلمعان بهيج، ومجد الربّ أضاء حولهم بشكل لم تألفه الأرض ولم تختبره عيون البشر. فسقطوا أرضاً، وألجمت ألسنتهم، وتحجّرت عيونهم، فظنّوا أنّ القيامة قامت، والقارعة قرعت، ويوم الحساب العظيم أضحى وشيكاً.

واستيقظت ذنوبهم مشتكية على ضمائرهم وصارت حياتهم ظاهرة أمام الربّ فخافوا خوفاً عظيماً وارتجفوا مر تعبين فزعين.

لقد بشّر الملاك الرعاة بلطف قائلاً:لا تخافوا أنا رسول السماء إليكم،رسول ربّكم، جئت أزفّ لكم البُشرى: انّه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الربّ الّذي به أعطي للناس كافة أن يخلصوا مِن دينونة الله العادلة. لأنّ هذا المولود هو الموعود به على لسان الأباء والأنبياء، وفيه تحقّقت النبوّات ومواعيد الله القدير.

لا تخافوا هوذا ابن العذراء الّذي تنبّأ عنه اشعياء النبيّ، هوذا ابن مسرّة الله، ورسم جوهره تعالى، وكلمته المتجسّد. لا تخافوا فها أنا أبشّركم بفرح عظيم يكون لجميع الناس. لا تخافوا لأنّه في هذا المولود قد اقترب الله منكم وحلّ المسيح بينكم، افتحوا قلوبكم لهذه البشرى وآمنوا بكلمة الله فتبتهجوا وتخلصوا اليوم.

 

فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ،

أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ.

(لوقا 2 : 10 - 12 ).

فامتزج الخوف و الانبهار بالتساؤل الفرح في نفوس أولئك الرعاة المغبوطين لَمّا رأوا ما حصل معهم، خصوصاً عندما ظهر جمهور مِن ملائكة السماء يرتّلون بأصوات الطهر الملائكية قرارهم الغريب تتجاوب أصداؤه في ربوع بيت لحم وتردّده أوديتها وصخورها:

اَلْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي،

وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ بِنَاسِ الْمَسَرَّةُ.

وقا 2: 14)

إن الله يحبّ الجميع وكلّ مَن يفتح قلبه لإنجيله يدرك أنّ العليّ القدّوس نزل إلى الناس الخطاة ليخلّصهم، ليس مِن سلطة الرومان بل مِن ذنوبِهم العديدة وموتهم الأكيد ومِن سلطان الشيطان.

لقد اخترقت كلمة الله الرعاة المندهشين ودفئت بالتّسابيح السماويّة قلوبهم، وهدأت نفوسهم. فخاطب بعضهم بعضاً قائلين : ينبغي أن نستجيب لداعي السماء، ونسرع إلى بيت لحم لنشاهد المولود العجيب، المسيح.

فركضوا مسرعين يحدوهم الأمل ويملأهم الرجاء وكلمات الملاك ترنّ في آذانهم : وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمّطاً ومضجعاً في مذود.

وعند وصولهم ليلاً إلى القرية قرعوا الأبواب وطرقوا النوافذ صارخين : أين هو المولود الجديد في المذود؟ ولكن لم يعلم أحد شيئاً عن هذه الولادة. وهزّ الناس النعسون رؤوسهم لكلام الرعاة، مستنكرينه، لكنّ الرعاة تابعوا الاستفسار والبحث حتّى وجدوا في مغارة بعيدة عن العمران مريم ويوسف حول الطفل الراقد في المذود، فانحنى الرعاة وجثوا، لانّهم لم يروا عجيبة، ولا أنواراً ساطعة، بل شمّوا رائحة الحيوانات، وأدركوا بساطة الطفل. ولعلّهم قالوا : انّ الله لم يحتقرنا نحن الرعاة، بل نزل إلى مستوانا، ولم يرفضنا نحن الخطاة، بل لبس جسد تواضعنا، وصار قريباً منا. وهكذا شعروا بالسرّ العظيم، أنّ إلهنا القدّوس ليس الهاً بعيداً مخيفاً، بل هو فاد قريب مدرك لطيف.

وفاضت قلوب الرعاة فرحاً و هنّأوا الامّ ولمسوا المذود، وانطلقوا مُرنمين في الليل البهيم، عائدين مرّة أخرى إلى القرية، مسرعين إلى رئيس البلدية. التجّار عدّوا نقودهم، والجلوس في المقاهي فكّروا بما سمعوه أنّه خرافة ابتدعها الرعاة.

فلم يثق أحد منهم بكلمة الله المتجسّد ولم يركضوا إلى طفل المذود ليخضعوا له. عندئذ أدرك الرعاة السرّ الثاني في ليلة العيد أنّ الخلاص للجميع ، ولكن ليس كلّ الناس يقبلون إعلان الله، إلاّ المطيعين للدعوة والمستنيرين. فصمتوا مشدودين وتركوا بلدة الموعد وعادوا إلى خرافهم وأمّا قلوبهم فامتلأت ترنّماً. وكانت تنطلق مِن أفواههم، وحمدهم ملء الليل.ومريم المباركة كانت تحفظ هذا الكلام كلّه مفتكرة به في قلبها بتأثّر عميق

يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ،

وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً،

أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ السَّلاَمِ.

( اشعياء 9: 6).

 

علامة الملاك المدهشة للرعاة المتبدّين

(لوقا 2، 12)

تحقيق الوع

عرف أتقياء العهد القديم، أنّه مكتوب في سفر النبي ميخا ( 5، 1)، أنّ المسيح سيولد في بيت لحم، وأنّ مصدره أزلي، وأنّه سيبني مملكة السلام على أرضنا المسكينة. فشخص جلّ المؤمنين إلى مدينة داوود، إلى مسكن عشيرة يسّي البيتلحمي (صموئيل الأول 1، 1)، لأنّ مِنه سيأتي المسيح حتماً.

أمّا مريم العذراء، فسكنت في مدينة الناصرة، وكانت مخطوبة ليوسف النجّار. ووجدت حبلى مِن الروح القدس (متّى 1، 18). ويوسف النجار يعود أصله إلى النبي داوود. فكيف يتمُّ الوعد، بأن يولد المسيح في بيت لحم، وليس في الناصرة، مع العلم أنّ المسافة بين المدينتين حوالي مئة كلم.

استخدم الله نظام القوّة المستمرة، وأنظمة الرومان، ليحرّك المسكونة، وليجبر يوسف ومريم أن ينزلا إلى مدينة داوود. كان النجّار وخطيبته مضطرّين أن يسافرا إلى منطقة هيرودس الكبير السفّاك، ولا يعرفان أين يسكنان هناك ويجدان عملاً للعيش. فالرومان لا يبالون بكل هذه المشقّات.

أمر الرومان بإكتتاب جميع الساكنين في المناطق المحتلّة، ليعرفوا بالتأكيد عدد السكان تحت سلطتهم، ليستخلصوا منهم الضرائب. فسجّلوا ليس فقط الأفراد بل العشائر بكلّيتها، ودوّنوا رؤوس الناس و أملاكهم، ورؤوس الحيوانات الأليفة، وعدد البيوت وحتّى عدد الأشجار المثمرة، أساساً للضريبة المفروضة على الجميع. أجبروا العشائر بجلب الضرائب حتى ولو مات الأفراد وذُبحت الحيوانات.

وهذا الإكتتاب تمّ بدون شفقة، وبكلّ قساوة، لذلك كان يوسف مضطرّاً أن يُسافر مع مريم إلى بيت لحم، رغم أن خطيبته كانت حبلى في أيامها الأخيرة.

في زمن انتقالهما مِن الناصرة إلى بيت لحم عمّ البغض، واللعنات مِن الأفراد على السلطة المستمرة، لأجل هذا الإكتتاب. لم تسمع كلمات الحمد والسجود والسلام، فالكل انتظروا مجيء المسيح فورا، كرئيس ثورة، ليحرّرهم مِن نير الومان. وليس مِن أحد كان ينتظر حمل الله الوديع، بل بطلاً شجاعاً.

يعلّمنا هذا التطور المليء بالدموع والضيقات، أنّ أحداث العالم المرعبة والمرفوضة هي بعض المرات مضطرّة، أن تخدم خطة خلاص الله بدون معرفتنا. فليت يتغيّر تذمّرنا ونوحنا، إلى الشكر والحمد، بواسطة الإيمان المبصر إلى عمق الأحداث.

1- المذود هو علامة الله البارزة للرعاة المحتقرين

فتّش يوسف ومريم بعد سيرهم الطويل، لمدة ثلاثة أيام في وادي الأردن، والصحراء اليهودية، مع ارتفاع ألف متر، عن مسكن في بيت لحم. كانت كل الأماكن تغصّ بالناس من بيت بني داوود للإكتتاب، إذ كان لداوود نسل لا يحصى. والكل عليهم الإجتماع في بيت لحم غصباً عنهم. رُفض يوسف ومريم مِن قبل جميع الأصدقاء والأقارب، لأنّ بيوتهم كانت غاصّة بالناس حتى الممرات.لم تجد عشيرة داوود مكاناً لإبن الله الآتي إليهم، وحتّى شعبه رفضوا مسيحهم مِن قبل ولادته، إلا الرعاة الذين دلّوها على ما يشبه إسطبل أو مغارة أو زريبة.

مرّ يوسف ومريم في إمتحان إيمانِهم، الذي لا يدرك، ونرى مِن هذا الحدث أنّ الإنسان المتعلّم المتطور لا يفتح مكاناً لله في بيته، وفي قلبه. ليس عنده وقت لله، ولا إهتمام بالخالق، ولا مكان لأجله. مِن أوّل لحظة مجيء المسيح ظهرت حقيقة البشر بالنسبة لعلاقتهم بالله.

يُدخل البدو الرّحل مواشيهم صيفاً إلى زريبة، وينامون مع الحيوانات في العراء، وكان على البعض أن يحرسوها، لكي لا تأتي الحيوانات المتوحشة والسارقين.

وأمّا في الشتاء فيضعون مواشيهم في مغائر، أو إسطبلات بسيطة، ليحموها مِن البرد الشديد. عندما أتى يوسف ومريم ظهر الرعاة خارجاً مع مواشيهم. فكانت المغارة أو الإسطبل فارغا،ً وكان هناك مذود غير مستعمل، لأنّ الطقس كان يسمح بوجود الحيوانات خارجاً.

وعندما اقتربت ولادة يسوع، هيّأ يوسف المذود المهمل، ونظّفه، ووضع بعض الحشائش، وغطّاها بقطعة قماش نظيفة، جلبتها مريم معها احتياطاً. وليس في المكان مِن ماء نظيف، أو ساقية قريبة، فاستخدما الماء المتوفر رغم تلوّثه.

كان الإسطبل أو المغارة مليئاً بالروائح والقاذورات. كان المكان معدّاً لحلب الحيوانات وجمعه، وتحضير مشتقاته كالجبن واللبنة واللبن. والجو ليس صحيّاً، وكان خطر الوباء على الأمّ بعد الولادة، وعلى طفلها المولود حديثا.ً إنّما الله حافظ على إبنه. حتّى في الإسطبل، ما دام له وظيفة روحية عليه، أن يتمّمها، فكلّ مكروبات العالم لا تقدر أن تتعدى عليه.

لم يُولد مخلّص العالم في قصر، ولا عيادة خاصة مع سرير نظيف، بل كان مرفوضاً مِن البشر قبل ولادته. ولد المسيح عمداً في مكان حقير، وأتى إلى الصغار والمحتقرين والمنبوذين. لهذا أتى ابن مريم للمساكين، وليس للعظماء. وهذا هو الخط الأحمر الذي يظهر جلياً في كل الإنجيل. فالوحي حلّ على بعض الرعاة. أمّا أهل القرية فناموا، ولم يسمعوا أو يروا شيئاً، فأصبح يسوع واحداً مِن الفقراء المساكين، ليفدي المحتقرين والمنبوذين، بل أصبح واحداً منهم ليرفعهم إلى مستواه.

قالت فتاة في الثالثة عشرة مِن عمرها عندما تأمّلت بولادة المسيح في إسطبل، أنّ هذه العلامة تدل على أنّه وُلد في وسط أوساخ وخطايا العالم! وحقاً أتى يسوع إلى نجاساتنا وذنوبنا وفوضانا، ليطهّر الساكنين في الظلمة، ويحرّرهم، ويقودهم إلى نوره العجيب. وحتّى الذين مارسوا النجاسة بالفحشاء، يستقبلهم يسوع. وإن كان إنسان له سمعة كريهة، فالمسيح أيضاً قريب منه.

جاء المسيح إلى عالم نتن، ليطهّره، ويجعل منه هيكل الله. أتى كحمل لله ليرفع خطيئة العالم ويمحوها. لذلك وُضع في المذود. وبرهن مِن اللحظة الأولى ما هو قصده.

ويا للعجب، حتّى القرآن يشهد بالمذود، ويستخدم مرتين كلمة "مهد" (آل عمران 3، 46؛ مريم 19، 29). إنّما نرى في القرآن صورة متّغيرة عن الطفل يسوع، اذ تدّعي اياته بأنه تكلم كطفل فور ولادته، فيتباهون بأنّه كلمة الله المتجسّد، وأنّه ممتلئ بكلمات مِن الله، وكان مضّطراً على التكلّم بهذه العلانات الإلهية مِن طفولته حتّى رشده (آل عمران 3، 46 ؛ مريم 19، 24- 26) وهذا الخطاب الأول للمسيح في القرآن وخطابه الثاني يرد بعده، فلم يدرك القرّاء منها حقارة يسوع ومجده المخفي فيه.

 

2- العلامة الثانية مِِِن الملاك للرعاة هو القِماط

اهتمّت مريم مسبقاً وأتت بقماط لتقميط الطفل المولود حديثاً، فقمّطته في مدينة داود ككلّ الأطفال. هذه العادة الضرورية لأجل حفظ الطفل، والنظافة. فلماذا اعتبر الملاك قماط يسوع بعد المذود كشيء مستغرب، ودليل على ألوهيته؟

كان الملاك معلناً إلى الرعاة، أنّ المولود الجديد في المذود هو المخلص للعالم وهو المسيح المرتقب والربّ بالذات. إنّما لم يظهر كروح بلا هيئة، ولا كسراب، إنما أصبح إنساناً حقاً، فقبل ابن الله احتياجات الجسد البشري. فاحتاج إلى غذاء، وكان له جوع، وعاش مِن حليب أمّه، وكان له خروج عادي. لقد أصبح ابن الله إنساناً حقاً، والبرهان على ذلك السرّ العظيم هو القماط! فمَن يفهم معنى القماط، يقترب مِن جوهر المسيح. ترك ابن الله مجده، وأصبح إنساناً ضعيفاً في إسطبل. فما كان حول رأسه هالة، ولا تلألأ نور حول أمّه أو أبيه بالتبني. ربّما نزلت دموع لأجل هذه الأحوال المؤلمة، وقام إيمان قوي لغلبة اليأس. فمَن لا يؤمن لا يرى مجد الله في أحقر موضع. أما الإيمان فيدرك الآب والإبن ومجده المستتر.

إنّ تجسّد إبن الله هو عثرة كبيرة لكثيرين. يرفض اليهود والمسلمون ألوهية المسيح مطلقاً؛ ولا تقدر الأكثرية منهم، أن يدركوا سرّ المسيح. لذلك ليس الله لهم الآب، ويبقى الخالق أمام أعينهم الإله العظيم المجهول، الذي ينبغي الخوف منه. إنّما القماط والإسطبل هما العثرة لخمس البشرية، لأنهم لا يريدون أن يدركوا تجسّد الله في المسيح. هكذا يظهر منذ ذلك الوقت الروح المضاد للمسيح، حسب رسالة يوحنا الأولى ( إصحاح 2، 22- 25؛ إصحاح 4، 1- 5).

2- ما هي الغاية لعلامة الملاك ظ

لخص الملاك قبل ابراز العلامتين، النبّوات مِن العهد القديم، وسمّى المولود في المذود:

"مخلصاً": وهذا الإسم يعني في ذلك الوقت، صفة خاصة لأوغسطس قيصر، الذي كان يحرّر الشعوب في حوزة الرومان، وأمّن السلام والوئام فيها. وبما أنّ الملاك استخدم لقب القيصر للطفل في المذود، أنبأ بأنه سيحرّر أتباعه مِن كل ارتباطات وسلبيات: كالخطيئة والموت، والشيطان وغضب الل، ويحرّرهم إلى حرّية أولاد الله، في حضرة أبيهم، وفي قوّة الرّوح القدس، والحياة الأبدية. فكلمة مخلّص لا تعني فقط الخلاص مِن الخطيئة، إنّما هذا قسم أساسي مِن التحرير المطلق، إلى ملكوت الله.

أمّا اللقب الثاني الّذي أعلنه الملاك هو "المسيح". إن كان الّلقب الأول "مخلص" مأخوذاً مِن الحضارة الرومانيّة، فالّلقب الثاني هو مأخوذ مِن صميم الحضارة العهد القديم، ويعني هذا اللقب حرفياً الممسوح بالرّوح القدس، كتجهيز بقوة الله لتنفيذ مهمته.

مُسِح الأنبياء والملوك ورؤساء الكهنة في العهد القديم. فبما أنّ الملاك اعترف ضمناً، أنّ  الطفل في المذود هو ملك الملوك، وكلمة الله المتجسّد، ورئيس الكهنة الوسيط الوحيد بين الله والناس، فوضّح لليهود بِهذا إعلاناً مثيراً أنّ ابن مريم هو المسيح الحق والموعود في أكثر مِن مئة آية في العهد القديم. إنما لم ينتظروا حمل الله الوديع، وملكاً متواضعاً، راكباً على حمار، بل اشتاقوا إلى بطل، الذي يكسّر جيوش الرومان، ويشفي الأمراض في شعبهم، ويقيم الموتى، ويسيطر على الأمم مِن القدس، فرفضوا المسيح الحقيقي، وتخيّلوا مجيء مسيح على ذوقهم، وليتهم لا يسقطون فريسة للمسيح الدجَال الآتي قريباً.

أمّا اللقب الثالث مِن فم الملاك للطفل في المذود هو "الرب". فكل المخلوقات ترتجف مِن هذه الكلمة، إن يدركوا معناها، لأنّ الرب هو الخالق، والمشرّع، والمدبّر، والقاضي. وكلّ إنسان سيقف أمامه يوم الدين. فمجيء الرب إلى البشر، معناه الأيام الأخيرة! فالخبر بأنّ الرب يأتي، ليس جديداً على مسمع اهل العهد القديم، اذ سمعوا:

صوت صارخ في البرّية: أعدّوا طريق الربّ. قوّموا في القفر سبيلاً لإلهنا.

كل وطاء يرتفع، وكل جبل وأكمة ينخفض، ويصير المعوّج مستقيماً والعراقيب سهلاً.

فيُعلن مجد الربّ، ويراه كلّ بشر جميعا، لأنّ فمّ الربّ تكلّم.

(أشعياء 40، 3- 5)

أمّا إعلان الملاك فزاد على هذه الوعود الخبر المثير أنّ الرب لا يأتي في المستقبل، بل قد أتى! إنّما مجده وقدرته مُستترين في الطفل المذود في إسطبل. فمجد الربّ في ابن مريم هو مجد مخفي، و غير مكشوف لكل الأعين. فمثلاً الهداية في عيد الميلاد في ايامنا، يغلفونها بورق جميل، لتظهر ثمينا، أمّا مع المسيح فيكون العكس: الظهور الخارجي كان حقيراً متواضعاً، ليغطّي المجد الإلهي الموجود في هديّة كل الهدايا! لا يقدّم الله نفسه مُعلناً بالصراخ لجميع الناس، بل فقط لِمَن يطلبه بشدّة، فيجده في المذود في إسطبل، في قماط، مع البسطاء المساكين.

يحلّّ كل ملء اللاهوت العظيمة، في تواضع المسيح وفقره، في مكان ذليل (كولوسّي2: 9) فما كان له بعدئذ مخدّة ليضع رأسه عليها، ولم يملك حمارا خاصا،ً بل مشى على قدميه. فليتنا لا نتكلم كثيراً عن المجد والبهاء، بل عن إخلائه المجد في ابن الله، ألا وهي الطريق الوحيدة للمجد الباقي. والذين يتبعونه في اتضاعه واحتقاره، سيرونه ويدركونه حقاً. أمّا الكنائس الفخمة، والإبتهاجات في العيد، فتشرف على الخطر، أنهم لن يجدوا الطفل في المذود حقا.

إن سألنا أنفسنا، لماذا سمح الله لهذه الأتعاب، والأوجاع والدموع، فنجد الجواب مِن الإنجيل، وهو أنّ الله أصبح إنساناً في المسيح، ليعيش واحداً مِن البشر بلا خطيئة.كلنا أشرار منذ حداثتنا، إلا يسوع، الذي وُلد بدون خطيئة، وثبت قدّوساً إلى الأبد. وقداسته هذه كانت الشرط، لاستحقاقه أن يموت عوضاً عنا، كحمل الله. لو ارتكب خطيئة واحدة، أو نطق بكلمة نجسة، أو فكّر فكراً مرفوضا،ً لن يتمّ خلاص العالم.

وُلِد يسوع ليموت، لكي ينال الأموات في الخطايا حياته الأبدية. فحياة يسوع هي محبة وذبيحة. وكان موته عبور إلى كيانه مع أبيه في السماء. كل مَن يؤمن بموته النيابي عنّا، ويشكره لأجل بذل حياته لأجلنا، يمتلىء بحياته الخاصة.

عظيم هو عيد الميلاد مع احتفالاته وهداياه، ولكن أخيراً تتمحور كلّ هذه الإجتهادات على سؤال واحد:"هل وُلد المسيح فيك؟" هل أصبح قلبك مذوداً له؟ هل سمحت له أن ينظّف فؤادك، ويقدّس باطنك، ليسكن فيك إلى الأبد؟

إن العيد يستمرّ.واما المسيح فلم يولد مرّة واحدة فقط، بل يشاء أن يتأنّس فيك، وفي كلّ الناس، لكي نلبس اتضاعه ومحبته، ونطلب المساكين والبسطاء لخدمتهم.

وبما أنّ يسوع وُلِد إبناً لله بروحه القدّوس، أعلن الله نفسه كآب. نقرأ في العهد القديم، قبل ميلاد المسيح، حوالي خمس عشرة مرة أنّ الربّ هو الآب لشعبه المختار، لكن منذ ولادة المسيح وبواسطة معموديته، أعلن الله نفسه كأب لإبنه الحبيب. منذ ذلك الوقت تغيرت عبادة الله مِن الخوف والرعب كديّان مطلق، إلى السجود بالحمد والفرح والشكر، لأنّ الخالق صار أبانا، بولادة المسيح! وربّما نقدر أن نلّخص الأقوال المسبقة، وقصّة ميلاد المسيح، في الإنجيل الجوهري كما كتب الرسول يوحنا:

لأنّه هكذا أحبّ الله العالم، حتّى بذل إبنه الوحيد، لكي لا يَهلك كلّ مَن يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية

(يوحنا 3، 16)

احفظ ايات الانجيل غيباً تكسب كنْزاً ابدياً لنفسك!

1 وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ. 2 وَهَذَا الاِكْتِتَابُ الأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. 3 فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا، كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. 4 فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضاً مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ، إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ، لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ، 5 لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ امْرَأَتِهِ الْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى. 6 وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. 7 فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ.

8 وَكَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ، 9 وَإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً. 10 فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ, لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ, 11 أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. 12 وَهَذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ، تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ. 13 وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللَّهَ وَقَائِلِينَ، 14 الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي, وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ.

15 وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى السَّمَاءِ، قَالَ الرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، لِنَذْهَبِ الآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هَذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ. 16 فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ، وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعاً فِي الْمِذْوَدِ. 17 فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِالْكَلاَمِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هَذَا الصَّبِيِّ. 18 وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ الرُّعَاةِ. 19 وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هَذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا. 20 ثُمَّ رَجَعَ الرُّعَاةُ وَهُمْ يُمَجِّدُونَ اللَّهَ وَيُسَبِّحُونَهُ عَلَى كُلِّ مَا سَمِعُوهُ وَرَأَوْهُ كَمَا قِيلَ لَهُمْ.

)انجيل المسيح حسب البشير لوكا 2 :1-20 (

التهليل بميلاد المسيح

 رنَّ صوتٌ في الأعالي     يا تُرى ماذا الخبر

ولمِ الأملاك تَشْدو        بترانيمِ الظفر

كلُّهم في المجدِ غَنَّى       بأناشيد السرور

قد بَدا أمرٌ عجيبٌ       رحمةُ الله الغفور

أيُّها الرُعاة هُبوا           وانظروا الربَّ المجيد

إنَّهُ قد صارَ طِفلاً         باتِّضاعٍ كالعبيد

مَجّدوه هللويا            مجّدُوه في العُلا

مجدوه هللويا             إنّهُ فادي الملا

 فَعَلى الأرضِ سلامٌ       وسرورٌ للبشر

إذ أَتى الفادي المُنجي     والمسيح المنتظر

فَليرِنَّ الصوتُ دوماً      مع قَياثيرِ الذَّهبْ

هَللويا قدْ فَدَانا           ولنا البِرَّ وَهَبْ

 

وُلِدَ الفادي وَضيعاً       وهو الربُ المسيح

فالسَّما والأرض تُبدي   لإسمه السَّامي المديح

فاقبلوا مَن قدْ تَسَمَّى     مِنْ إلهِنا الكريم

بِنَبيٍّ ومَليكٍ               ثُمَّ كاهنٍ عَظيمْ

 

المجوس مِن المشرق ونجمهم الهادي

(متّى2، 1- 23)

التمهيد: التجمّعات اليهوديّة في بلاد ما بين النهرين.

عند سَبي نبوخذ نصّر للأمّة اليهودية مِن بلادهم إلى بابل، بدأت لهم مرارة العبوديّة، فتحقّقت فيهم نُبوّة الأنبياء كأشعيا وعاموس وأرميا. انّما ربّ العهد لم يترك شعبه المتقسّي في عذاب السَبي، بل أرسل إليهم أنبياء جدد، مثل أشعيا الثاني، وحزقيال، ودانيال الّذين عيّنهم الله لينشئوا في اليائسين التّوبة والإيمان والرجاء.

نجح بعض المسبّيين لأجل ذكائهم، ليدخلوا إلى المدارس العليا للكلدانيين، حيث تعلّموا بجانب المواضيع العامّة، عِلم الفلك. فنشأت في بلاد ما بين النهرين حضارة يهوديّة جديدة عصرّية. عندما انكسرت بابل، مركز الكلدانيين، سمح قورش الكبير للمسبيّين،  بعد 49سنة مِن خروجهم مِن أرضهم، أن يعودوا إلى بلادهم الخربة، في سنة 539 قبل الميلاد. فأعطى حرّية للعبيد اليهود، وسمح لهم أن يبنوا وطنهم مِن جديد، لينشئوا قلعة حصينة فارسية، تجاه الفراعنة المصريين.

ويا للعجب، ليس إلاّ قليل الّذين تجاوبوا لهذا الإمتياز بالعودة. كان بينهم الأنبياء كحجي وزكريا ونحميا وعزرا. الأكثريّة اليهوديّة فضّلت أن تعيش في كَنَف الحضارة المريحة، وحياة الرفاهية، تحت سلطة الفرس، وبنوا تجمّعات يهودية، ومدارس التوراة مع التأثير الكلداني والفارسي.

إنّما الوعود القوّية في العهد القديم، استيقظت في وعي الأتقياء، لأنّه كُتِب في أسفار العهد القديم مراراً، أنّه سيأتي مَلك إلهي، مِن أرومة داوود، ليَبني ملكوتاً أبدياً في القدس. وهؤلاء اليهود في الغربة راقبوا بتمعّن التطورات السياسيّة في الشرق الأوسط، فتعجّبوا عندما غلب الإسكندر الكبير سنة 333 جيوش المملكة الفارسية العظيمة، الّتي كانت تشكل حضارة خاصّة بين أفريقيا وآسيا. وغطّى الإسكندر العظيم بعد انتصاره المناطق الخاضعة له بأنظمة وأبنية وأديان يونانية، إنّما عظمة الإسكندر الشابّ، انكسرت بعد موته سنة 323 قبل الميلاد إلى أربع دويلات، الّتي حكمت أولاً المصريين ثم السّوريين في مناطق حول القدس.سمح المصريون لرؤساء الكهنة في أورشليم أن يؤسسوا حُكماً دينياً. في ذلك الوقت تُرجم كتاب القديم إلى اللغة اليونانية لأوّل مرة (سَبْتواكنتا). ولكنْ بعد أن حكم السوريون المنطقة حول القدس بدأ الإضطهاد الدموي في محاولة لتغيير الحضارة اليهوديّة إلى الحضارة اليونانيّة غصباً. وصل هذا الاضطهاد في عهد انتوخوس الرابع إلى قمّته، فهرب اليهود، الأمناء للتوراة، إلى مجتمعات اليهوديّة في بلاد ما بين النهرين أفواجاً.

وبعدما تخلّص اليهود الثائرين مِن الإضطهاد المرير، شكّل رؤساء الكهنة مملكة مستقلّة لمدّة مئة سنة في المناطق حول القدس. لم يحدث سلام بينهم، لأنّ العشائر اقتتلت فيما بينها. كان هناك جماعة اسمها الصدّوقيون الذين أرادوا أن يحققوا مبادىء اليونانية الحديثة في بلادهم، أمّا الجماعة الأخرى الأتقياء المتمسكين بشريعة التوراة المسمى الفريسيون كافحوا لأجل تنفيذ قوانين 623 مِن شريعة موسى. فكلّ مَن نجح في الحكم ضغط على الآخر واضطهده. في ذلك الوقت هَرب المئات مِن الكهنة والأتقياء إلى مستوطنات يهودية عند الفرات، فانتقلت الحياة الروحيّة اللاهوتيّة مِن جبال اليهوديّة إلى بلاد ما بين النهرين مرّة أخرى.

وتغيّرت هذه الحالة عندما فتح الرومان سنة 63 قبل المسيح القدس، وفرضوا على اليهود دفع الجزية. وعيّنوا الملك هيرودس، العميل العنيف للرومان، حاكماً ثم مَلكاً على كل مناطق إسرائيل ويهودية مِن سنة 37 قبل المسيح إلى سنة 4 بعد المسيح. كان هيرودس ذكياً كالثعلب فحافظَ على سلطانه عند القياصرة الّذين كانوا أعداء لبعضهم البعض، مثل انطونيوس ويوليوس وأغسطوس. جدّد هيرودوس الهيكل الثاني، ووسّعه مع ساحة الهيكل، وبنى مُدناً جديدة على الطراز الروماني، ليربح محبّة الشعب الّذين كرهوه.

راقب أولاد المسبيّين واللاجئين الساكنين في بلاد ما بين النهرين التطورات المتقلّبة في أراضي وطنهم، وبدأ فيهم الرجاء لأجل إنشاء الأبنية الجديدة والفخمة، ورجعت بعض العشائر إلى جبال اليهودية، وجمع الأتقياء عند الفرات أموالاً وذهباً لترميم الهيكل في القدس.

ظهور النجم الغريب

أدرك علماء الفَلك اليهود، الساكنين في بلاد ما بين النهرين، اقتراب الكوكبين زحل والمشتري في برج الحوت بتاريخ 29 أيار سنة 7 قبل المسيح. وقد كهرب هذا الإدراك اليهود في الغربة، لأنّهم رأوا في زحل الحامي شعبهم و في المشتري كوكب الملوك. فلا بدّ مِن حدوث أمر غريب وعجيب. واستنتجوا مِن هذا الإقتراب الظاهر للكوكبين، أنّ في هذا اليوم وُلد المسيح الموعود، وأنّ الله أرسله ليُنشىء مملكة السلام في القدس، ولا مُكوث لهم فيما بعد. هيّا إلى القدس، ليسجدوا للملك الإلهي الجديد! ساعد المسؤولون في مركز الفلك والتجمّعات اليهوديّة هؤلاء المسافرين، عن طريق جمع تبرّعات تكاليف للسفر الطويل، وتقديم الهدايا للمَلك المولود. فأرادوا أن يُكرموا المَلك الجديد، وتمنّوا أنْ يَقبل مستوطناتهم في مملكته الجديدة، الواسعة في كلّ أنحاء العالم.

سافر المجوس مِن المشرق، أولاً من بلاد زِيكورات (أبراج) نحو أبو كمال على نهر الفرات، وبعدئذ إلى الصحراء السوريّة، الّتي تبعد 350 كلم، عبر واحة تدمر، إلى مدينة حماة، فمدينة حمص ثم نحو الشام وطبريّا، ونزلوا مِن وادي الأردن إلى أريحا، ثم تسلّقوا باتجاه أورشليم. كانت هذه الرحلة المتعبة لمسافة 1400 كلم، مع العلم أنّ الطريق المباشر مِن منطقة بابل إلى أريحا عبر واحة الرطبة إلى القدس يكون فقط 900 كلم. إنّما في هذا الوضع يومئذ كان عليهم أن يتحمّلوا هذا العبء في السفر 800 كلم في الصحراء المرعبة. لذلك فضّلوا الطريق الأبعد عن طريق أبو كمال تدمر حتّى أوروشليم، وحتّى اليوم ترتاح أكثرّية القوافل في تدمر لينابيعها الكِبريتية وبيوتها العالية المخصّصة لجثث الأموات، الّتي تنشف في الهواء الناشف المطلق.

راقب المجوس مِن المشرق النجوم والكواكب ليلاً، واكتشفوا في تشرين الأول في اليوم الثالث في السّنة السابعة قبل المسيح، الإقتراب الثاني مِن الكوكبين، وتيقّن المسافرون مِن مقاصدهم، وأكملوا سفرهم بحماس ورجاء.

استقبالان مِن هيرودس للمجوس

نزل المنجمون مِن الفرات إلى القدس، أولاً عند عشائرهم القريبة، الّتي رجعوا مِن بلاد ما بين النهرين، وسألوهم عن مَلك اليهود المولود جديداً، فكان لسؤالهم صدًى كقنبلة هزّت كلّ أركان المدينة، لأن لا أحد يَعلم شيئاً عن ملك مولود جديد. فخاف الكلّ مِن ثورة وتفتيش البيوت واغتصاب. وعندما استنتج الملك هيرودس المرتاب، بواسطة جواسيس، عن هذه المسألة المثيرة، فدعا فوراً المجوس إلى مجلسه، ولكنّهم لم يعرفوا أكثر، إلا أنّهم متيقّنون بأنَّ المسيح الموعود مِن الله قد وُلد في الأراضي المقدسة.

وبعدما استنتج هيرودس مِن المسافرين عن المَلك المولود جديداً، أنه المسيح المعلن مِن قِبل الأنبياء مسبقاً، فدعا رؤساء الكهنة والكتبة مِن شعبه، ودفعهم للمعرفة مِن أسفار الكتب عمّا سمعه عن بلدة ولادة المسيح الموعود.

وأعطى رؤساء الكهنة والكتبة الجواب سريعاً إلى هيرودس، وقرأوا الآية المشهورة مِن سفر ميخا للملك المرتاب:" أمّا أنتِ، يا بيت لحم أفراتة، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الّذي يكون متسلّطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل ( ميخا 5، 2). أن يحسبوا بدقة متناهية هذا الحدث.

كان هيرودس غير مؤمن، ولا يبالي كثيراً بهذه الوعود، ويعتبر أنّ هذه القضية غير مهمّة، إنّما اهتمّ ألاّ يحدث شغب في الشعب. فدعا المجوس ثانية إليه سِرّاً، وقبل هداياهم، وأخبرهم، أنّ المَلك الإلهي المرجو سيلد على بعد ثماني كيلومترات جنوب القدس، في قرية بيت لحم. استخبر هيرودس مِن المجوس خاصّة، مَتَى ظهر الكوكبان كوحدة لأوّل مرة وحفظ التاريخ 29 أيار سنة 7 قبل المسيح، كأساس لمقاصده الخفية، وطلب المَلك الثعلب مِن المجوس رسميّاً، أن يسافروا إلى بيت لحم، ويفتّشوا عن الطفل، ويرجعوا لاخباره شخصياً عن كلّ ذلك، عندئذ سيتقدم هو أيضاً إلى بيت لحم، ليسجد لذلك المولود الإلهي الجديد

 

سجود المجوس للطفل يسوع

عندما أقلع المجوس المسافة القصيرة جنوب القدس، طلبوا مِن الله ليهديهم بنعمته، وأدركوا عندما سافروا ليلاً أنّ نجمهم ظهر فوراً، وهذه المرة ليس في الغرب، كما في المظهرين السابقين في شهر أيّار وتشرين الأول، بل لمع في كانون الأول في اليوم الثالث من السنة السابعة ق.م. جنوباً بكلّ وضوح، الأمر الّذي يستطيع منه علماء الفلك اليوم مِن مراصدهم.

لم يبال أهل بيت لحم عن ولادة يسوع في مغارة بيت ساحور، ولم يؤمنوا بأخبار الرعاة عن ظهور الملائكة، وربّما سخر البعض عن ولادة المسيح مِن عذراء، واستهزأوا بها.لم يَنل المجوس عوناً مِن أهل بيت لحم عند تفتيشهم عن المَلك الإلهي المولود جديداً. وُلد أولاد كثيرون في مدينة داوود، وكان يفضّل كلّ أب، أن يكون ابنه هو المختار، وليس الطفل مِن الغرباء مِن الناصرة، فأهملوه إهمالاً كاملاً. فهكذا بقي أصحاب الفلك منعزلين، وحاولوا أن يجدوا مكان ولادة يسوع، ومسكن أمّه بواسطة إقتراب الكوكبين. وعندما رأوا أنّ الكوكب كان واقفاً فوق بيت معيّن، حيث انتقلت إليه العائلة المقدّسة بعد ستة أشهر مِن ولادة يسوع، وفرح المجوس لأنّ الربّ أعطاهم اليقين، مِن أنّ هذا البيت هو المسكن المطلوب، الّذي أشار إليه النّجم، ودخلوا فوجدوا الطفل يسوع وأمّه. لا يخبرنا الكتاب المقدّس عن بحث أو مكالمة إن كان هذا الطفل هو المسيح الحقّ أم لا، لأنّ الله قد أرشد المجوس بعد مسيرة 1400 كلم بالتّمام إلى البيت المعيّن، ومنح لهم اليقين، بأنَّ هذا الطفل يسوع مِن الناصرة، هو المسيح الموعود الحق ولا أحد غيره. لا نعرف كم المجوس الّذين اشتركوا في هذه الرحلة الطويلة، فالإنجيل لم يتكلم عن واحد أو إثنين أو ثلاثة إلا أنّ القواعد تساعدنا وتوضح لنا بأنّ العدد ليس واحداً أو إثنين بل ثلاثة على الأقل.

لمّا أدرك المجوس أنّ الطفل هو إبن الله فركعوا وسجدوا لرئيس السلام، الّذي سيُصالح العالم بالله. يعلّمنا سجود المجوس أنّ العلماء الأتقياء يخضعون لشخصية وسلطان يسوع، ويُسلمون أنفسهم له، كعبيد له، ويضعون أنفسهم بتصرّفه إلى الأبد. ويتّضح مِن هذا السجود أنَّ عُلماء الفلك لم يؤمنوا بكواكبهم، ولم ينتظروا ملكاً دنيوياً، بل أدركوا أنّ في هذا الطفل صار الله بنفسه إنساناً. كانوا يقرأون الوعد العظيم في سفر أشعياء،وتأمّلوا به، وحفظوه غيباً:" لأنَّه يُولد لنا ولد، ونُعطى إبناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام، لِنمو رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليُثبتها، ويعضدها بالحقّ والبِرّ، من الآن إلى الأبد"( أشعيا 9، 6- 7).

يحقّ السجود لله ولإبنه وحده. مَن يؤلّه إنساناً يُجدّف، ومَن يسجد للقمر أوالشّمس مثل الوثنيين في روسيا وكوريا والصين يجدّف أيضاً. نقدّم ثقتنا ليسوع إبن الله، ونُكرم بِنفس الوقت أبانا الذي في السماوات. نحبّ الآب والإبن بقيادة الرّوح القدس، ونشكره، لأنّه أعلن نفسه في ابنه. يقشعرّ اليهود والمسلمون مِن السجود ليسوع، لأنّهم لم يعرفوا الآب والإبن، لأن ليس الروح القدس فيهم، لكن يثبت للمسيحيين الإمتياز، أن يَنحنوا عميقاً للآب والإبن، ويشكروه لأجل مجيئه وفدائه الأبدي.

هدايا المجوس

ما كان سجود المجوس نظرياً فحسب بل عملياً. ولم يتكلّموا عن الله وإبنه فقط، بل أتوا بِذَهَبْ ولُبان ومُرّ هدايا كتقدمة لإكرامه. ينتبه الإنسان أولاً للذَهب كما أنّ الملك سليمان جمع كلّ سنة 666 وزنة ذهب مِن ضرائبه، وكلّ وزنة مقدارها خمسون كيلو ذهب ( أول الملوك 10، 14). بهذه الآية يظهر لأوّل مرة عدد 666 الرمز للمسيح الكذّاب، فيسوع علّمنا بوضوح:"لا تقدرون أن تخدموا الله والمال". تحاول الأكثرية العمل بعكس هذه الوصيّة، ويحاولون أن يخدموا الله والمال معاً، إنّه وهم، لأنّ الله يريد، أن يملك قلوبنا وحده كاملاً. لنا الإمتياز أن نضع أموالنا وذهبنا تحت تصرّف الله ونهديه إياه.

أمّا بالنسبة ليسوع فكان الذهب مصاريف السفر للهرب المنتظر نحو مصر، فأبوه السماوي اهتمّ بأمره مسبقاً، لم يترك إبنه في حالة يأس وضيق. الجماعات اليهودية في الغربة في بلاد ما بين النهرين تمكّنت بتضحيتها نجاة يسوع بهربه مسبقاً، بدون علمهم، فالتبرّعات بارشاد الرّوح القدس تستطيع أن تقدّم عوناً ضرورياً لأفراد أو جماعات في ملكوت الله.

أمّا اللُبان فيدلّ على التمجيد والسجود للآب بالإبن. كان يسوع دائماً يمجّد أباه السماوي، فأنكر نفسه، وكان متواضعاً، حتّى اعترف:" لا يقدر الإبن أن يعمل مِن نفسه شيئاً، إلاّ ما ينظر الآب يعمل. لأنّ مهما عمل ذاك فهذا يعمله الإبن كذلك" ( يوحنا 5، 19).

وقال أيضاً:" الكلام الّذي أكلمكم به، لستُ أتكلم به مِن نفسي، لكنّ الآب الحالّ فيّ هو يعمل الأعمال" ( يوحنا 14، 10). إنّ مَلكنا الإلهي متواضع القلب، ويقدّس بأقواله وأعماله اسم أبيه في السماء دائماً. والطلبة الأولى في الصّلاة الربّانية هي الطلبة الأكثر أهميّة في هذه الصّلاة النموذجية. فكيف تقدّس إسم الآب ونمجدّه؟ افتح قلبك للرّوح القدس، فيرشدك كيف تكرم اسم الآب اليوم. روحه يقدّسنا، ودَم يسوع المسيح يطهّرنا، لنستحقّ أن نسجد للآب ونخدمه. هل أصبحت حياتك شيئاً لحمد نعمته المجيدة.

أمّا المُرّ فهو دواء غالي الثمن، ويستطيع أن يشفي أمراضاً عديدة. أمّا بالنسبة ليسوع فهو الدليل على آلامه وموته. قد حمل خطيئة العالم وقصاصنا كنائب لنا عمداً:" لأنّه جعل الّذي لم يعرف خطيئة خطيئة لأجلنا لنصير نحن برّ الله فيه" (كورنثوس الثانية 5، 21). كان مصير يسوع مُرّاً إنّما ثبت ممتلئاً بالفرح في المحبّة والسلام. يشترك المسيحيون في آلام المسيح، لأنّهم أصبحوا غرباء في هذا العالم. كِياننا في المسيح يُدين السطحيّين والحياة الأبديّة الموهوبة لنا تُعلن موتهم الرّوحي في الخطايا. مَن يريد أن يتبع يسوع يُنكر نفسه، ويحمل صليبه ويتبعه، وإن حدث أنّ واحداً لم يختبر اضطهاداً وضيقاً لأجل اسم يسوع فيليق به، أن يقبل المضّطهدين ويأويهم، ويُعزّي الّذين يُطردون مِن بيوتِهم ويتألمون مِن الإهانات والضربات.

 

الهِداية بروح الله وطاعة المهتدين

أمر الله المجوس في الحُلم، أن لا يرجعوا إلى هيرودس، بل يُسافروا بطريق آخر، وينزلوا على البحر الميت فوراً، ويسرعوا إلى بيتهم البعيد. ربما لاحظوا مِن تلقاء أنفسهم، أن هيرودس كان طاغياً مستهزئاً وقتّالاً بقلب حجري، فشكروا ربّهم، أنه أمرهم مباشرة أن لا يرجعوا إلى القدس، فأطاعوا هُداه فوراً، واختفوا بدون ضجّة.

وبعدما ترك المجوس بيت لحم، ظهر ملاك الربّ بجلاله ليوسف، أبو يسوع بالتبني في حُلم أيضاً، وأمره بكلمات قصيرة:" قُم مِن النّوم فوراً وخُذ الطفل يسوع وأمّه واهرب بسرعة إلى مصر وامكث هناك مع يسوع وأمه إلى حين، أعطيك أمراً جديداً لمسيرك. إنّ هيرودس صمّم على قتل يسوع حتماً فاهرب حالاً ".

أدرك يوسف عظمة مسؤولِيته، وقام فوراً، ولم يعتبر حلمه سراباً، بل أيقظ الأمّ وطفلها، وجمع لزوميات السَفر، وفَرّ في منتصف الليل على حمار نحو بئر سبع وغزة، حتّى وصلوا إلى مصر، بعد سفر طويل متعب، محفوظين بحماية ربّهم. يفخر المؤمنون في مصر اليوم، أن يسوع التجأ إليهم، وأقام عندهم لمدّة سنوات. أمّا يسوع فكان ينبغى عليه، أن يتبع طريق شعبه ويُكمّل النبوءة: "مِن مصر دعوت ابني"  (متّى 2، 15).

وحتّى اليوم يدعو الرب في مصر أقباطاً إلى إتباعه، ليحملوا إنجيله إلى كلّ بلد، ينطق فيه باللّغة العربيّة. فمَن يسمع صوت الربّ في ضميره ويُطيع كلمته فوراً؟ عندئذ ينال بركة عظيمة، ويُصبح بركة للكثيرين.

 

مجزرة الأطفال في بيت لحم

كان هيرودس قتالاً وسفّاك دم، وأصبح في طموحه نحو السلطة والعظمة أكثر بطشاً وقاتلاً للجماهير. فأمر بقتل زوجته، وأمّها، وابنَيه على أساس تهمة مِن ابنه الثالث، وقتل حتّى ابنه الثالث قُبيل موته الخاصّ. فقيل عند الرومان:"أفضل أن يكون الإنسان خنزيراً لهيرودس، مِن أن يكون امرأته أو إبنه".

لما استخبر هيرودس مِن جواسيسه، أنّ المجوس وجدوا يسوع المسمّى المسيح، إنّما هربوا خُلسة بطريقة أخرى، اغتاظ الطاغي في غيظه، وأمر بقتل جميع الأطفال في بيت لحم ومحيطها، الّذين هم مِن سنتين وما دون. هذا الأمر المرعب يبيّن لنا بوضوح أنّ المسيح كان لديه مِن العمر سنة ونصف عندما أتت موجة السفّاح على بيت لحم.

يسأل البعض لماذا سمح الله بقتل أطفال أبرياء بهذا المقدار؟ ولماذا يسمح بضيقات وحزن في العالم؟ لا نعرف الجواب الأكيد، إنما يَليق بنا أن نتذكّر أنّ أهل بيت لحم لم يقوموا بزيارة يسوع في المذود، ولم يظهروا اهتماماً كبيراً عندما طلب المجوس المسيح المولود حديثاً، ربّما ابتسموا أو ضحكوا على هؤلاء الأتقياء الغرباء وخرافاتهم.

فقد حل مَلك الملوك في وسطهم، ولم يسجد أحد مِن بيت لحم للملك الجديد، إلاّ الرُعاة! فهل كان قتل أطفال بَيت لحم قصاصاً لهم على كفر وكبرياء أهل القرية؟ وهل نستحقّ نحن قصاصاً شبيهاً على اهمالنا للنعمة المعروضة علينا؟

خير لنا أن ننتهي مِن الغرور بأنّ الأطفال أبرياء، لأنّ كلّ الناس فاسدون مِن الخطيئة الموروثة منذ آدم، فأعلن داود وبولس الحكم الفاصل:" ليس مَن يعمل صلاحاً ولا واحد!" ( مزمور 14، 3 ؛ بولس رومية 3، 12). جميعنا مستحقون غضب الله وإن عشنا فلا نعيش لصلاحنا، بل بسبب نعمة الله. الضيقات في العالم تدفعنا نحو التّوبة، لنلتمس من طفل المذود، أن يخلّصنا مِن غضب الله، ودينونته العادلة، ونتقدّس تقديساً حقاً. فقبول المخلّص والسجود له يعطينا الحقّ أن نعيش اليوم وفي كلّ الأيام.

 

المجوس ونحن

مَن يعي الخبر عن السّفر الطويل للمجوس مِن بلاد ما بين النهرين ذهاباً وإياباً مسافة 2800 كلم يليق به أن يسأل نفسه:

كم قيمة يسوع في حياتك حتّى تستعد لتتعب وتضحّي وتصرف وقتاً لأجل الملك الإلهي؟ هل تعيش لنفسك أو لأجل ربـّك؟ سوف يسألك يسوع ناظراً بالنسبة لآلامه وموته الكفّاري: كلّ هذا فعلت لأجلك  فماذا فعلت أنت لي؟

هل نسجد للآب بواسطة الإبن أو لا نزال نكرم أنفسنا أو تحرّرنا مِن الأنانية ولمجد خالقنا ومخلّصنا وقاضينا؟ تأمّل حقاً كيف تستطيع أن تقدس اسم الآب؟ هو قدّوس في ذاته ولا يحتاج إلى تقديسك إنّما يسمح لك أن تحبّه فوق كلّ شيء وتكرمه وتخدم المحتاجين في دنيانا كما خدمنا يسوع فكيف تظهر هذه الخدمة عملياً؟

أطاع المجوس ويوسف الله في أحلامهم وكانوا مطيعين لربّهم فوراً. إن سمعنا بقلوبنا عند قراءة الكتاب المقدّس أو عبر صلواتنا إلهاماً أو أمراً مِن الله فهل نطيعه بودٍ وفوراً وكاملاً؟

إن الموت والحياة لأجلنا ولأجل الآخرين تتوقف على مدى اطاعتنا الإيمانية، فهل نستعد لنلبّي دعوة يسوع فوراً؟

الطريق الطويل مع تعبه احتمله المجوس مِن المشرق إلى القدس والعودة يدلّنا على أنّ بعض الناس يحتاجون إلى وقت طويل حتّى يجدوا يسوع حقاً، فهل أنت مستعد أن تخدم طالبي الحق؟ وتستقبلهم وتنصحهم وترافقهم وتباركهم وتكون أميناً لهم حتّى في أوقات الإضطهاد؟ اطلب مِن يسوع أن يعطيك أعيناً مفتوحة في قلبك لتدرك طالبي الحق في محيطك وتقدّم نحوهم وصلّ لأجلهم حتّى يمنح الربّ الثقة والقبول لكلمتك. كثيرون يطلبون يسوع في أيامنا ويتوقعون أن يجدوا إنساناً يساعدهم.

لا يقصد الخبر عن المجوس أن نسرع إلى المنجّمين والعرّافين ونطلب منهم أنْ يقرأوا لنا الطالع أو نستفهم اليوم الأفضل للزواج وأنْ نزرع النبات في حركة ظاهرة النجوم. فلا ترجع إلى غرور الوثنيين لأنّ يسوع هو كوكب الصُباح الّذي فتح لنا عصراً جديداً بل هو نور العالم وشمس البرّ لحياتنا فهو الّذي يقوّينا ويمنحنا خدمة إرشاد روحه فلا ترجع إلى المنجّمين والمبصّرين ولا تمش منعزلاً في الضباب أو متروكاً في اللّيل الحالك لأنّ الملك الإلهي قد حضر وهو يرافق كلّ مَن يثق به ويعتني بنا فنحن محفوظون في نعمته ومَن يتبعه لن يكون وحيداً، فهل وجدت الربّ يسوع وتسجد له مسلّماً له حياتك إلى الأبد؟

 

متَى ولد يسوع ؟

بعدما تأكدنا مِن التاريخ البشري مِن أن هيرودس الكبير قد مات في السنة الرابعة قبلالمسيح وأن الأطفال المقتولين في بيت لحم هم دون السنتين فيليق أن نفهم أن يسوع ولدست سنوات قبل بدء تاريخ المسيح.

وهذا الإستنتاج يؤكّد مِن ظهور الكوكبين ثلاث مرات في السنة السابعة قبل المسيح فيجوز أن نتوقع ولادة المسيح في ربيع السنة السابعة قبل المسيح.

وبالتأكيد لم يولد يسوع في يوم عيد الميلاد في السنة صفر قبل المسيح لأن التاريخ لعيد الميلاد عُيـّن في السنة 335 بعد المسيح مِن قبل الباباوات ليغلب إيمان الوثنيين بشروق الشمس بعد اليوم الأقصر في 21/ 12 من كل سنة فأعطاهم عيداً أعظم أي ظهور شمس السماء في ولادة الطفل يسوع في بيت لحم. وهذا النظام المتبع حسب النظام الغربي.

وليس مِن الضروري لأجل الخلاص لنعرف بالضبط متّى ولد يسوع. بل المهم أنه ولد الملك الإلهي حقا،ً وأصبح إنسانا،ً مستعداً أن يكفرّ عن سيئاتنا، وفتح لنا الطريق المؤدي بنا إلى أبينا السماوي.

 

إمتحن معرفتك عن الاحداث المتعلقة

 بولادة يسوع المباركة

إن تأمّلت في الاخبار عن الولادة العظمى، وحمدتَ الله الحي معنا على هذا الحدث العجيب، تقدر ان تجيب على الاسئلة التالية بسهولة:

1-   ما علاقة أوغسطس بالطفل يسوع؟

2-   ماذا يهدف الإكتتاب الروماني للمستعبدين؟

3-   لماذا كان يوسف ومريم مجبرَين على السفر إلى بيت لحم؟

4-   ماذا يعني أنّ يسوع وُلد في مغارة أو إسطبل؟

5-   لماذا أمر الملاك البهيّ الرعاة مِن عدم خوفهم العظيم؟

6-   لِمَ أعلن الملاك لكلّ الناس فرحاً عظيماً؟

7-   ماذا تعني كلمة " مخلّص" عند أوغسطس وعند يسوع؟

8-   كيف كان يسوع "المسيا الموعود"؟

9-   ماذا يعني لنا: أنّ يسوع هو "الربّ"؟

10- ما هي العلاقة المدهشة الّتي أعلنها الملاك للرعاة؟

11- ماذا يكون مهماً بالنسبة لك؟ تسابيح جماهير الملائكة.

12- مَن وجد الرعاة في بيت لحم بعد تفتيشهم الشاق!

13- لِمَ لم يزر أهل بيت لحم ملكهم المولود حديثاً في قريتهم؟

14- ماذا تعني الجملة: أنّ مريم كانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكّرة به في قلبها.

15- هل أصبح قلبك مذوداً ليسوع أيضاً؟

16- ماذا تعني زيارة المجوس مِن المشرق وسجودهم للطفل يسوع؟

17- إلى ماذا ترمز هداياهم؟

18- لماذا أطاع المجوس ويوسف فوراً أوامر الربّ المعلن لهم في الحُلم؟ وما تعني لنا طاعة إيمانهم؟

أُكتب أجوبتك مع عنوانك الدائم و الكامل الى عنواننا فنرسل لك أحد كتيبنا تشجيعاً لإيمانك. نصلي الى الرب الحي ليحقق كلمته فيك، و يجعلك بركة للكثيرين.

الحياة الفضلى

ص.ب. 226- مزرعة يشوع - المتن - لبنان

family@hayatfudla.org 

 

فتعَالوا يا خطاةً           واعرفوا الرَّاعي الأمين

واجعلوا اسمه رَجَاءً       واعُبُدوهُ طائعين

مَن بَذُقْ أفراحَ هذا      ويرى نورَ سَنَاه

سيُغنيّ في الأعالي          هللويا للإلهْ