الحياة الفضلى

مركز الدراسة بالمراسلة

المحتويات: العدد 2

 

دخول المسيح الى أورشليم

)رواية عن أحداث تاريخية حقيقية(

دلائل على كفّارة المسيح في التوراة والأنبياء

(تامّلات في ايات مِن الكتاب المقدّس)

  

طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ وَيَحْفَظُونَهُ

 (من كلمات المسيح حسب البشير لوقا 11، 28 )

 

هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيئَةَ الْعَالَمِ

 

شهادة يوحنّا المعمدان عن يسوع المسيح

(أنجيل المسيح حسب البشير يوحنّا 1: 29)

 

سلسلة التأملات، العدد الثاني

الطبعة الاولى  2005

 

الحياة الفضلى

ص. ب. 226- مزرعة يشوع - المتن - لبنان

www.hayatfudla.org

 

 رواية عن أحداث تاريخية حقيقية:

دخول المسيح إلى أورشليم

كان يسوع يطوف في الجليل على قدميه في كل القرى والمدن. علّم في المجامع ،وكرز في الساحات، وشفى المرضى، وطرد الأرواح الشريرة، وحذَّر الناس مِن يوم الدين  المقبل عليهم. فنادى الجميع:"توبوا، لأنّه قد اقترب ملكوت السماوات"(متّى 3، 2).

وبعدما أكمل خدمته في الجليل، اتّجه نحو أورشليم، ومشى مع تلاميذه مِن وادي الأردن الأخضر، وصعد في اليوم الثالث مِن رحلته، مِن أريحا عَبر الصحراء اليهودية، نحو أورشليم المرتفعة، التي تبدو كتاج على رؤوس الجبال.

 إقامة لعازر

مَرّ يسوع في طريقه لحضور عيد الفصح، في بيت عنيا، الواقع في المنحدر الشرقي مِن جبل الزيتون. وعاشت هُناك أختان مع أخيهما، كعائلة مؤمنة بالمسيح. كانت قد استقبلت سابقا المسيح وتلاميذه، واضافتهم.

خيّم هذه المرّة الحُزن على هذا البيت، بسبب موت لعازر الذي تُوفّي، ودُفن منذ أربعة أيام مِن وصول المسيح. فامتلأ البيت بالمعزّين، الذين أرادوا مُشاركة الأختين في أحزانِهما وتعزيتهما.

عندما سمعت مرثا، الأخت العاملة مِن الأختين، أنّ يسوع اقترب مِن قريتهم، أسرعت نحوه، وواجهته بالدموع: "يا سيد، لو كنت هاهنا، لم يمت أخي" (يوحنا11، 21). كانت تؤمن بأن المسيح قادر على إبراء أخيها، وشفاء جميع الأمراض. وتأسّفت، لأنّه لم يأتِ قبل موته، رغم أنّها أرسلت تُخبره عن مرض أخيها المزمن.

أمّا يسوع فقال لها: "سيقوم أخوك" (يوحنا 11، 23 ). فأجابته مرثا على الفور:"أنا أعلم، أنّه سيقوم في القيامة، في اليوم الأخير" (يوحنا 11 ، 24 ).

لقد أراد يسوع أنْ يُرشدها إلى إيمان أعمق، فأعلن لها سِراً مِن أسرار حياته وقيامته، ووضّح لها، أنَّ مَن يُؤمن به، يشترك في حياته الأبدية، ويُساهم في غلبه للموت. فأمّنها بالآية الذهبية: "أنا هو القيامة والحياة.

مَن آمن بي، ولو مات، فسيحيا، وكل مَن كان حيّاً، وأمن بي، فلن يموت إلى الأبد. أتومنين بهذا؟"

(يوحنا 11 ، 25 - 26 )

وهنا تجاسرت مرثا معترفة اعترافها العظيم، شِعاراً لكل النسوة التابعات للمسيح: "نَعَمْ،

يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، الآتِي إِلَى الْعَالَمِ (يوحنا11 ،27 ).

كان هذا الاعتراف مِن قبل مرثا جرأة، لأنّ اليهود المتديّنين حينئذ كانوا يرجمون مَن يقول أنّ لله إبناً.

أمّا مرثا فكانت تشهد بأنّ يسوع هو المسيح المنتظَر، الذي يترقّبه اليهود، واعترفت فوق ذلك، أنّ يسوع هو ابن الله الروحي، الآتي إلى دنيانا، ليَبني ملكوت أبيه السماوي. فأمنت مرثا بتجسّد روح الله في المسيح. لم تفهم بعد إمكانية إقامة أخيها المتوفى. إنّما آمنت بمُعطي الحياة نفسه، الّذي سمّته ابناً روحياً لله، الذي استطاع أن يُحقّق الغير المستطاع.

عندما وصل يسوع معها ومع أختها مريم إلى المغارة، التي دُفن فيها لعازر بصحبة الجمع، رَأُوا حجراً كبيراً على باب القبر. فقال يسوع للجموع المحتشدة:"إِرفعوا الحجر" (يوحنا 11، 39).

عندئذ اعترضت مرثا، وقالت بِرُعب: "يا سيد كلا، لأنّ الجُثة قد أنتنت، ولها أربعة أيام". أمّا يسوع فنظر إليها، وقال: "ألم أقل لك: إنْ آمنت تَريْن مجد الله؟"( يوحنا 11 ، 40). وبعدما دحرج الرجال المحتشدون الحجر عن القبر، بدأ يسوع يصلّي أمام الجميع بصوت واضح:"أيّها الآب، أشكرك، لأنّك سمعت لي، وأنا علمت أنّك في كل حين تسمع لي. ولكن لأجل هذا الجمع الواقف، قلت ليؤمنوا أنّك أرسلتني" (يوحنا 11 ،41 - 42).

وبعدما صلّى ابن مريم هذه الكلمات بصوت واضح، "صرخ بصوت عظيم: لعازر، هلمّ خارجا"( يوحنا 11، 43).

اخترق أمر ابن الله الصخور، وغلب قدرة الموت، فأحيا الميّت، وحملته ملائكة غير منظورة مِن قبره، لأنّه كان ملفوفا بأربطة الكفن، حتّى رأسه كان مغطى بمنديل.

أمّا الجماهير فنظرت بدهشة، واستغراب، ولم تعرف ماذا تقول. فأمرهم يسوع قائلاً: "حلّوه ودعوه يذهب". (يوحنا 11 ،44 ). عندئذٍ ارتعب الجميع، وشعروا بقدرة يسوع الإلهيّة، والبعض منهم آمن، بأنّ الله قد أرسل "المسيح" إليهم.

المؤامرة لقتل يسوع

جُوبه انتصار محبّة الله وظفر حياته، بردّة فعل مِن قبل بُغضة الظلمة. وَصل الخبر عن قيامة لعازر إلى مسمع رؤساء الكهنة في القدس، وأدركوا البيّنات المُدهشة ليسوع، وحسدوه على سلطانه الروحي، فخافوا أن يتركهم الشعب، ويجري معه، فيحدث انشقاق، وحركة بِدع، فيفقدوا بالتالي قيمتهم وكرامتهم عند الجماهير.

أنبأ رئيس الكهنة قيافا، وهو وسيط روح الشيطان، عن ضرورة موت يسوع النيابي من أجل سلامة الأمة. لكنّه حرّف معنى العبارة، ولم يقصد المصالحة مع الله، بل اعتبر موت يسوع ضرورياً، لتأمين الراحة السياسية لأجل الأمة (يوحنا11، 46-54).

تظهر أكاذيب الشيطان دائما قوية، ما دامت تتضمن بعض الحق. لكنّها تبقى مجرّد أكاذيب، حتى ولو كانت مُقنعة للعامة.

تدفّق أهلُ أوروشليم بأعداد كبيرة إلى بيت عنيا، لمشاهدة لعازر الحي، بعد أن كان جُثّة نتنة في قبره لأربعة أيام. أمّا الآن فهو يعيش بينهم حيّاً وسالماً. فتعجّبوا ودُهشوا مِن يسوع، و ذاع صيته، حتّى قرّر رؤساء الكهنة أن لا يُميتوا يسوع رئيس الحياة وحده، بل لعازر أيضا، ليُبرهنوا أنّهم قادرون أن يميتوا هذا المُقامَ مِن بين الأموات وأن يلقوه في القبر، متى أرادوا ذلك (يوحنا 11، 53 ؛ 12 ، 9- 11 ).

منذ ذلك الوقت،لم يدخل يسوع علانية إلى العاصمة، بل بات في مدينة أفرايم الصغيرة، الواقعة على حدود الصحراء. كان يسوع مزمعاً، أن يُقرّر ساعة موته كحمل الله، حسب إرادته الخاصّة في انسجام مع مشيئة أبيه السماوي.

مَسحة يسوع للموت

ترك يسوع ملجأه مع تلاميذه، وقام بزيارة لعازر المُقام مِن الأموات وأختيه، ليقوّي إيمانَهم، ويرشدهم روحيّاً، وسط دهشة الوافدين لرؤية الميّت الحي.

حضّرت الأختان وليمة كبيرة ليسوع وتلاميذه الإثنَي عشر، مع العلم أنّ مرثا قامت بِمُعظم الخدمات اللازمة. أمّا مريم، الأخت الموهوبة بالشعور الباطني، فأخذت قارورة مِن طيب "ناردين"، غالي الثمن، وكسرتها، ورشّتها على قدمي يسوع، ومسحتهما بشعرها.

ربّما كانت تقتني هذا الطيب الغالي الثمن، لأجل كفنها الخاصّ، أمّا الآن فسكبت كنزها على قدميه، رمزاً لمحبّتها وشكرها، وسجودها لابن مريم. امتلأ البيت مِن رائحة الطيب الذّكية، ودهش الحاضرون.

أمّا يهوذا الاسخريوطي الخائن فاشمأزّ لأجل إتلاف هذا الكنز، وتمتم: " لماذا لم يُبع هذا الطيب بثلاث مئة دينار ويُعطَ للفقراء" (يوحنا 12 ،4 -6). فأجابه الممسوح بطيب ناردين بقوله الحاسم، الذي يُبدّد كلّ حلم عن "فردوس العمال" أو "رفاهية الرأسماليّة":

" أُتركوها! لماذا تُزعجونَها؟ قد عملت بي عملاً حسناً، لأنَّ الفقراء معكم في كلّ حين، ومتى أردتم، تقدرون أن تعملوا بِهم خيراً. وأمّا أنا فلست معكم في كلّ حين. عملت ما عندها قد سبقت ودهنت بالطيب جسدي لتكفيني. الحقّ أقول لكم: حيثما يُكرز بهذا الإنجيل في كلّ العالم، يُخبر أيضا بما فعلته هذه تذكاراً لها" (مرقس 14 ،6 -9). سمح المسيح بتقديم عمل شكرها، وأصبحت مريم قُدوة للمضحّين لتكريم المسيح عبر القرون.

التمهيد لدخول المسيح أورشليم

وفي اليوم الثاني اتّجه يسوع وتلاميذه نحو العاصمة أورشليم، رغم الخطر المتربّص بِهم، وكانت أورشليم ليسوع مثل تنين فاتح فاه ليبتلعه. أمّا يسوع فتقدّم دون إبطاء في طريقه، الذي أراه إيّاه أبوه.

كان ابن مريم قد تنبّأ خمس مرات، أثناء صعوده إلى القدس بوضوح عن آلامه، وموته، وقيامته، التي انتظرته في أورشليم (متّى 16، 21-23؛ 17، 13؛ 22-23؛ 20، 17-19؛ 26، 1-14 ). لم يكن يسوع خيّالياً، بل واقعياً.

لماذا لم يهرب، بعدما عرف ما سوف ينتظره في القدس بالتفصيل؟ كل إنسان طبيعي يَهرب، عندما يداهمه الخطر أو يدركه، ولكنّ يسوع أكمل الطريق، لأنه عَلِم أن هناك خطة إلهية مكتوبة عليه، لكي يُصالح الله مع العالم الشرير. ولا توجد طريقة أخرى، لخلاص المذنبين والأثمة، إلاّ بواسطة آلامه، وموته، وقيامته، نيابة عنهم. لم يهاجر يسوع، ولم يهرب! بل تقدّم طوعاً إلى فم الموت المفتوح له.

ظهرت بصيرة يسوع النبوية أيضاً، بما أنَّه أبصر الأتان و ابنها الجحش مربوطين إلى شجرة. كان مُزمعاً أن يمتطيهما، و يدخل بِهما إلى العاصمة. فاختار تلميذين لينطلقا، ويحلا الآتان و الجحش، وأفهمهما إنْ احتجّ صاحب الآتان، فيقولان له، إنّ "الربّ محتاج" إليهما، وإنّه سيرجعهما حالما يستكمل استخدامهما (متّى 21، 1-3؛ مرقس11، 3).

أمّا اسم التلميذين فلم يُذكَر من أجل سلامتهما. وأطاعا أمر يسوع، وفعلا بما قال لهما. عندئذ اختبرا كيف تحقّقت نُبوّة يسوع بدقّة وبسرعة. فتأمّلا في طريقهما أنّ هذا الدخول إلى القدس هو دخول غريب.  ولا بدّ أنّهما تذكرا نُبوّة زكريّا الشهيرة، حيث نقرأ:

ابتهجي جدا يا ابنة صهيون! اهتفي يا بنت أورشليم!

هوذا، ملكك يأتي إليك. هو عادلٌ ومنصورٌ وديع،

وراكبٌ على حمارٍ وعلى جحشٍ ابن أَتانٍ.

(زكريا9: 9).

أدرك التلميذان أثناء حلّ قيد الآتان وجحشها أنّ أمراً عظيماً سيحدث في تاريخ أمّتهما، وأنَّ حدثاً متنبَأ عنه سيحل:الملك الموعود الإلهي يأتي الآن! الأنبياء انتظرت هذه اللحظة، أمّا المَلك الجديد، فلم يأت بجيش جرّار، ولا بمعونة ماليّة لإنعاش الاقتصاد، بل أتى عادلاً وديعاً ومنتصراً في روح الله.

لم يكنْ الحاكم الجديد غنيّاً، ولم يكن له جواد، ولا إبل، حتى ولا حِمار. بل كان فقيراً، حتّى إنه اضطر للاستعانة بأتان أحد أصدقائه كي يدخل القدس.

كان ينبغي للتلميذين، أن يقولا لصاحب الآتان وجحشها:"الربّ محتاج إليهما". إنّّ هذه الجملة مخالفة لذاتِها. إنَّها مستحيلة لأنَّ الربّ القدير الّذي خلق كلّ شيء، ويملك كلّ شيء، ويضبط كلّ شيء، ليس محتاجاً إلى شيء. ولكنّه أصبح في المسيح إنساناً، وأكثر مِن ذلك، وُلد في إسطبل، وسار على قدميه مِن قرية إلى قرية، ليحقّق حلول ملكوت الله، بكرازة إنجيله. فالعظيم أصبح فقيراً لنصبح نحن الفقراء أغنياء روحيّاً في محبّته.

لذلك تأْمرنا النُبوّة:"ابتهجي جداً، واهتفي أيّتها الأمّة المُستعمرة المسكينة. إِقبلي ملكك بالهتاف، لأنّ الرّبّ يأتي شخصيّاً إليك"، كما قال النبي أشعيا سابقاً:

 

قومي استنيري، لأنّه قد جاء نورك، ومجد الربّ أشرق عليك،

لأنّه ها هي الظلمة تُغطي الأرض، والظلام الدامس الأمم.

أمّا عليك فَيُشرق الربّ، ومجده عليك يُرى.

(اشعيا 60، 1-2 )

أصبح الحماران وراء التلميذين السبب في تأملاتِهما. ربَّما قال الواحد للآخر، إنْ احتاج الربّ إلى الأتان وجحشها، فكم بالأحرى يحتاج إلينا. ليتنا نتوب، ونقدّم ذواتنا لمخلّص البشر، ونعمل تماما ما يأمرنا به، ونضع أنفسنا تحت تصرّفه.

عندما رجع التلميذان إلى يسوع والتلاميذ الآخرين، وضعا ثيابهما على الآتان وجحشها كاعتراف منهما: نريد أن نضع ما نملكه تحت تصرف ربّ العالمين، وفعلاً جلس الرّبّ على ثيابِهما، وابتدأ بالنزول مِن جبل الزيتون نحو وادي قدرون.

موكب استقبال المسيح

أخبر التلميذان التلاميذ الآخرين بأفكارهما عن نبوّة زكريّا، الّذي عاش قبل المسيح بخمسمائة سنة. وهذه الشّرارة ألهبت القلوب، فالكلّ أدرك، أنّ الآن قد حلّت لحظة إتمام النبوّات والوعود في العهد القديم، إذ يُعلن مَلك السماء مجده وسلطانه.

أراد التلاميذ الآخرون أن يُبرهنوا إخلاصهم للرّبّ الآتي، فخلعوا ثيابهم وفرشوها أمام يسوع، ليطأها و هو على ظهر الآتان. أمّا الجمهور المرافق فقطع أغصاناً مِن الأشجار، وطرحها أمام الآتي كسجّاد، ونثروا الزهور في طريقه، وأرادوا أن يُعدّوا طريقّ الرّبّ، ويستقبلوه، ويقدّموا أنفسهم له، وبدأوا يُرنّمون ويهتفون، وابتدأ الابتهاج.

يا للعجب، فالسّلطة الرومانيّة المستعمرة لم تتدخّل، لأنّ المسؤولين كانوا قد أرسلوا جواسيس بين المستمعين ليسوع، وقد ورد في تقاريرهم أنّ: هذا النبي مِن الناصرة غير خطر. فتلاميذه لا يملكون السلاح، وهو لا يدرّبهم على استعمال السلاح الأبيض. إنّما هو وديع ومتواضع، ويأمر أتباعه أنْ يحبّوا اعداءهم، حتّى الرومان! ويشفي المرضى، ويدخل كمَلك على ظهر حمار إلى القدس. فلا خطر مِن هذا الرجل على الدولة الرومانيّة.

أمّا الذين اشتركوا في هذا الابتهاج، فساروا وراءه، وحوله، وأمامه، وبدأوا بالزغاريد، والهتاف، والأناشيد. لقد استلهموا مِن الحمارين أنّ دخول يسوع إلى أورشليم هو تتمة نبوّة زكريا، فَسادَ الموكبَ بأجمعه ترقّبٌ وانتظار. وامتلأ  وادي قدرون بالتوتّر، وكأنّهم ينتظرون مفاجأة سماويّة.

صرخ البعض:"أوصَنّا لابن داود". وكانت كلمة أوصنّا في الآرامية يومئذٍ تعني: أَعِنْ، نَجِّ، وخَلِّصْ! والعديدُ رأى في الراكب على الحمار ابن داود الموعود به (صموئيل الثاني 7، 13 - 14).  والوعد يقول: إِنّه مِن سلالة الملك داوود النبي، وإنّه يكون في الوقت نفسه إبناً لله، الذي تبناه، ومسحه بروحه. وإِنّ ملكوتَهُ ملكوتٌ أبدي، ولا يسقط عرشه أبداً. هتف مُرافقوه بهذه النبوات مِن العَهدِ القديم لاستقبال المسيح الآتي، إذ إنّه ابن مَلك وابن الله في آن واحد.

شخصَ الجميع ببصره على الذي خطف لعازر مِن مخالب الموت، وكان بين اليهود معرفة بأنّ المسيح الآتي سيقيم الموتى! لذلك بشّر وجود لعازر بعد قيامته مِن الأموات بِلُغّة واضحة.

وزيادة على ذلك، ألهم الحماران الجماهير الإِدراكَ، أنَّ نبوّة زكريا تتم الآن أمام عيونهم، والانتظار وصل إلى الغليان، فصَرخوا: أعنّا يا ابن داود، نجّنا سريعاً، امنح خلاصك لأمتك. أمّا يسوع، فصمت، وركب ساكتاً، ومرتفعاً برصانة في وسطهم، إذ عَلِم، ماذا ينتظره في القدس، وأدرك ما هو وراء صرخة "أوصَنا" .

أمّا مجموعة أخرى فأنشدت:"مبارك الآتي باسم الرب". يختصّ هذا النداء عادة برئيس الكهنة، عندما صالح شعبه الخاطئ يوم الكفّارة العظيم بالله القدّوس. وربّما شعرت الجماهير وتلاميذه، بأنّ يسوع ليس الملك والربّ فحسب، بل هو أيضاً رئيس الكهنوت، والوسيط الطاهر بين الله والناس. فحمدوه، وسبّحوه، وعظمّوه، لأنه يُنشئ سلاماً بينهم وبين الله.

 

بُكاء يسوع على أورشليم

اندسّ بين الجماهير الهاتفة بعض المتعصّبين للشريعة الموسوية، فتقدّموا بعنف إلى يسوع، وخاطبوه بخشونة:"يا معلّم،انتهرْ تلاميذك!" (لوقا 19 ، 39)، واعتبروا التسبيح للمسيح الموعود ضلالاً وتجديفاً. أمّا يسوع، فأجابهم برصانة:"إنّه إنّ سَكت هؤلاء فالحجارة تصرخ" (لوقا 19، 40).

عندما أكمل يسوع سيره كانت ساحة الهيكل، والمدينة غير المقدسة، مفروشة أمامه. وبينما كان يتبصّر بِهما، ترقرقت الدموع في عينيه. أمّا الجماهير فكانت تتهلّل، وترتّل المزامير، ولكنّ يسوع بَكى على أورشليم! أبصر التعصّب الديني، والكِفاح حول السلطة، والخِداع، والرياء، والظلم، وتقسّي القلوب مُجتمعة في هذه المدينة. فقال يسوع بصوت مُنخفض مُخاطباً المدينة أورشليم:

"إنّكِ لو علمت أنت أيضاً، حتّى في يومك هذا، ما هو لسلامِك، ولكنْ الآن قد أُخفي عن عينيك"(لوقا 19، 41-42).

 لقد أثبت رفضه من قبل المتدينين عمله المسبق بنفسه وبالمدينة، فرأى مستقبل أورشليم بالتّفاصيل، وبَكى عليها.

لم تلاحظ الجماهير المرافقة هذا الحدث الجانبي، بل تهلّلت، وعظّمت مجد الربّ بيسوع. وأعلن تلاميذه عن عجائبه في الجليل، ومجّدوا الله على قيامة لعازر مِن الموت. فملأ فرح عظيم، وانتظار أعظم موكب يسوع.

أمّا يسوع فسالت الدموع من عينيه، لأنّه رأى في المدينة، ما يأتي، واشتمّ الروح المضاد لنفسه، وتألّم مِن تدمير العاصمة مِن غضب الله مسبقا (لوقا19، 43-44).

تجاسر مع الوقت أتباع يسوع، وصرخوا بصوت عال:"يسوع هو الملك الجديد، ملك إسرائيل" (يوحنا12، 13). لقد أصبح دخول يسوع إلى أورشليم بهذا الهتاف خطراً كبيراً. فتحوّل قدومه إلى مشكلة سياسية، تَخُصُّ القوةَ المستعمرة الرومانيّة مِن جهة، والمَلك هيرودس مِن جهة أخرى، وأضحى احتمال الشكوى المدنية عليه وشيكاً.

أمّا يسوع فلم ينبس بكلمة. بقي صامتاً على ظهر الحمار، وهو في وسط الجماهير الهائجة. ربّما تدخّـل البعض مِن تلاميذه، وأوقفوا الهتاف بنشيد لتتويج الملك. ولكنْ بعد أسبوع، رفع بيلاطس الوالي الروماني، هذا الدُعاء على لوحة فوق رأس المجلود المُرتفع كسبب لحكمه عليه.

استمرّ الآخرون، ورتّلوا الآية مِن زكريا:"هوذا مَلكك يأتي إليك". وأخذوا هذا الوعد الإلهي كوعد لهم شخصياً. لم يأتِ يسوع لبلاده فحسب، أو لمدينته، أو لكنيسة معيّنة، بل أتى لكلّ إنسان شخصياً، وهو يتقدّم إليك، أيّها القارئ العزيز، ويريد أن يحلّ في قلبك وفي ذهنك. هل أنت مستعدّ لاستقباله؟ هل انفتح فؤادك لملك السماء والأرض؟ الّذي يحلّ بروحه في كلّ مَن يشتاق إلى الحقّ، والصدق، والمحبّة، والطهارة، والسلام، والغفران. ملكك يأتي إليك! هل تستقبله "بأهلاً وسهلاً مِن كلّ قلبك؟

 

ردّة فعل أهل أورشليم

انتشر الخبر عن مجيء المسيح كعاصفة في المدينة كلّها، بعشرات الآلاف مِن حجّاجها، الآتين مِن كلّ ناحية للإحتفال بعيد الفِصح. اضطربت الجماهير، وتساءلت: هل هو المسيح الآتي؟ هل يعني مجيئه حدوث حرب أهلية، أو تحرير مِن نير الرومان؟ ارتجّت المدينة كلها، وركض الكثير، ليروا الّذي أقام الموتى، وهربت منه الأبالسة، والّذي شفى المرضى الآتين إليه.

أمّا الحُجاج الغُرباء، فسألوا مرافقي السيّد الراكب على حماره:"مَن هو هذا؟ لا نعرفه مِن أين يأتي؟". وكان الجواب من المتحمّسين متحفظاً، ولم يعترفوا بأنه ابن داود، ولم يسمّوه الملك، بل قالوا، وكأنّهم غير مبالين: "هذا يسوع النّبِي الّذي مِن ناصرة الجليل"(متّى21، 10). عند هذا الإعلان انتهى الاهتمام عند الكثيرين، وتساءلوا:"أمِنَ الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟"(يوحنا1، 46).

كانت هذه المدينة مشهورة سابقاً، بأنَّ أهلها يُهاجمون القوافل، ويخطفون رهائن، ويطالبون بالفدية لاطلاق سراح المخطوفين. وفوق هذا كله، لم يذكر الكتاب المقدّس بوضوح، أنّ المسيح يأتي مِن الناصرة.

وابتدأ الهيَّجان مِن الجماهير يهدأ ويخفّ. فرأوا في يسوع شخصاً عادياً، راكباً ظهر حمار، مثله مثل الذين يأتون يومياً إلى العاصمة، ليعرضوا خضرتهم وفواكههم في أسواق المدينة.

بعدما عبر يسوع البوابة مِن سور المدينة السميك، انتظر كثيرون بانتباه، ماذا سيفعل أولاً؟ هل يتقدّم مباشرة إلى برج الملك هيرودس، وينزله عن عرشه، ويتوّج نفسه ملكاً جديداً، أو سيتقدم إلى القلعة الرومانية (الأنطونيو)، ويفتح بأعجوبة الأبواب المغلقة، وينوّم الحراس، ويتغلب على الرومان، ويطردهم! وأمّا آخرون فانتظروا منه أن يتوجّه مباشرة إلى قَصر رئيس الكهنة، لِيُنشئ معه ملكوت السماوات على الأرض. لكن لم يحدث شيء مِن ذلك! لم يحقق المسيح أماني ورغبات الجماهير! 

تابع يسوع مسيرته نحو الهيكل، بيت الله، ومركز الحضارة اليهودية، وبدأ يطهّر المعبد. طرد بائعي الحيوانات، والتجّار مِن حول المعبد، وقلبَ موائد الصيارفة. وعندما سُئل: "لماذا هذا العمل؟" فأجاب:"مكتوب، بيتي بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مَغارة لصوص"(متّى 21 ، 13 ).

بعدئذ تقدّم يسوع إلى بَهوِ سليمان، وجلس، وعلّم الذين أرادوا أن يسمعوا إنجيله. وتقدّم المرضى إليه، فتحنّن عليهم، وشفاهم بكلمته، وحمل البعض المقعَدين إليه فشفاهم حتّى قفزوا مِن الفرح، ورقصوا في ساحة الهيكل. أراد يسوع بهذه الشفاءات أن يُعلن لأمته: كلّكم مرضى، مرضى روحيّاً، بذنوب، وإلحاد، وكبرياء. جميعكم ساقطون إلى الدينونة. أنتم بحاجة ماسّة إلى الشفاء، والخلاص، والعون الروحي. أنتم مُقعَدون عن خدمة العلي، وليس فيكم فرح الربّ، ولا قوة الروح القدس، حتّى تعيشوا لله، وتعبدوه بالشكر (متّى21، 12-14).

ولكنّ الجمهور كان أصَمَّ عن تعليمه، وأعمى عن عجائبه. فقد توقّع منه ثورة سياسية، وحلول ملكوت السماوات على الأرض، وأسف مِن يسوع، لأنه لم يستجب له. ولم يدرك المرض المميت المتسربل فيه، ولم ينفتح ليسوع، ليقيمه، ويحييه بالحياة الأبديّة. 

عندما لاحظ رؤساء الكهنة والكتبة، أنّ الجماهير ابتعدت رويداً رويداً عن يسوع، أتوا، وتظاهروا في ساحة الهيكل، ونظروا كيف أتى الناس بالمرضى والعُمي ليسوع ليشفيهم. فالهيكل البهي تحوّل إلى مستشفى عام، ولكنهم لم يدركوا أنّ ابن الله قد حلَّ في وسطهم، ليشفي، ويبارك، ويُخلّص.

وسمع الأحبار أنّ الأولاد رنّموا:"أوصنّا لإبن داود". فَهِم فقهاء التوراة والكهنة فوراً معنى هذا النشيد. لم يفهم الأولاد ما قالوه، مرددين أقوال وأناشيد البالغين. فصوت الصِغار

كان صدًى لنشيد الكبار، لذلك تقدّم وجهاء المدينة غاضبين إلى يسوع، وقد تحلّق حوله المرضى، وسألوه بانفعال ومكر: "ألا تسمع ما يرنّمه الأولاد؟". فهم يسوع معنى سؤالهم، وأجابهم:"نعم. أ ما قرأتم قط: مِن أفواه الأطفال والرضّع هيّأتَ تسبيحاً"(مزمور8، 2؛ متّى21، 16).

كان يسوع يصلّي سابقاً في الجليل، بعدما أكمل خدماته الخلاصية: "أحمدك أيّها الآب، ربّ السماء والأرض، لأنّك أخفيت هذه (الأسرار لملكوت الله) عن الحكماء والفهماء، وأعلنتها للأطفال. نعم أيّها الآب، لأنّه هكذا صارت المسرّة أمامك" (متّى 11، 25 - 26 ). أوضح يسوع بكلماته هذه لعلماء التوراة في القدس، أنّهم لا يستطيعون أن يستقصوا بعقولهم وحكمتهم أسرار ابن الله. فمَن لا يثق فيه مِثل طفل لَنْ يرى ولن يدخل ملكوت الله. فالروح هو الذي يُحيي أمّا الجسد فلا ينفع.

خيّم الليل على المدينة، وساد السكونُ الأزقّةَ. أمّا في البيوت فبحث الحُجاج اختباراتهم في ذلك اليوم. لم تحدث ثورة، وما توّجوا ملكاً جديداً. بقي الوضع على حاله، باستثناء بعض المرضى الذين شُفوا، والمشلولي الذينن قفزوا. رُبّما أدرك البعض أنّ هذا بمثابة العلامة للمسيح الآتي، حسب سفر اشعياء:

 "حينئذ تتفتحُ عيونُ العُمى، وآذانُ الصُمّ تتفتح. حينئذٍ يَقفز الأعرج، كالإيل ويترنَّم لِسَانُ الأخرس لأنّه قد انفجرتْ في البرّية مياهٌ وأنهارٌ في القفر. ويصير السّراب أجماً، والمعطشةُ ينابيع ماءٍ"( اشعياء 35، 5-7).

استمرّ التساؤل حول ابن مريم، ويستمرّ حتى اليوم. صمّت الجماهير آذانها عن سماع تعليمه في الهيكل، ولم يؤمن به، إلاّ القليل. وردّة الفعل مِن قبل رؤساء الكهنة والمتديّنين بدأت تتغلغل إلى القلوب. وحاولوا أن يفتحوا أمام يسوع فخاخاً لاهوتية، لكي يسقط فيها. أمّا هو فحاورهم حتّى وقعوا هم في الفخ المنصوب له. وليس لإنسانٍ مُقتدر أن يُجيب عن أسئلة روح الله. واتّضح بعد أيام قليلة إلى أين سينتهي المصير. تكاتف بعضُ الرؤساء، أمّا يسوع فكافح لأجل مدينته، وتألّم مِن الدينونات المُقبلة، واعترف:

يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء، وراجمة المرسلين إليها. كم مرّة أردْتُ أنْ أجمع أولادك، كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها،

 ولم تريدوا. هوذا، بيتكم يُترك لكم خراباً. لأنّي أقول لكم: إنكم لا تَرونني مِن الآن،

 حتى تقولوا: مبارك الآتي باسم الرب.

(متّى 23، 37-38).

تُعارض، حتّى اليوم، أكثرية اليهود مَلكها الوديع. لهذا السبب يصير بيتُهُم خراباً، حتّى يعترفوا، ويُصلُّوا:"مُبارَكٌ الآتي باسم الرب".

أمّا الشعوب الباقية، فإمّا أن يشفوا بيسوع، أو أن ينكسروا به وينسحقوا برئيس السلام، إنْ لم يستقبلوه في قلوبِهم وبيوتِهم. فمَن هو الحكيم، الذي يستقبل مَلك السماء والأرض؟ لا يزال الوحي يقول لك:

"هوذا، مَلكك يأتي إليك!"

(زكريا 9 ، 9 ).

دلائل على كفّارة المسيح

في التوراة والأنبياء

مَن أراد أن يعرف كفّارة ابن مريم في اتّساعها وعمقها، لا بُدَّ له مِن أن يتعمّقَ في أسفار العهد القديم، ويقرأ ما يُعلنه الوحي، تمهيداً لمصالحة الله مع العالم الفاسد.

 

ابن حواء يغلب الشيطان

 عندما انفتحت أمّ البشرية لحيلة الحيّة، ووافقت على الثورة ضدّ الله، لم يُبد الله المرتدّة فوراً، بل منحها فُرصة للتوبة، قبل موتها. أمّا الحيّة الملعونة، فقد أنبأها الربّ، بأنّ واحداً مِن نسل المرأة الأولى، سيسحق رأسها ويُبيدها.

لكنّ الانتصار على الشرّير الأصيل، سيكلّف الغالب حياته. سيتغلّب على أبي الكذب بموته البريء. لذلك قال الربّ لخير الماكرين: "وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلِك ونسلها، هو يسحق رأسك، وأنت تسحقين عقبه" (التكوين3: 15). ضَمِن الله مِن بدء الكتاب المقدّس غلبة المسيح على إبليس. وُلد ابن مريم ليموت ويُدين بموته الشيطان (رؤيا 12: 4-5، 15-17).

ويتضمّن إعلان الحرب مِن الله على الحيّة، أنّ واحداً مِن نسل حواء، سوف لا يوافق على الفتنة مِن قبل إبليس ضدّ الله، ولا يخطئ، بل يغلب الشرّير بتواضعه، ووداعته، وحقّه، ومحبّته هذه الغلبة ستكون ممكنة، لأنّ هذا الغالب ليس مِن صلب آدم الرجل، بل يأتي مِن صلب المرأة، لأنه وُضع فيها روح الله. فالمولود مِن الروح مِن مريم العذراء يُبيد عدّو الله نِهائيّاً.

 

تتبارك الشعوب بإبن إبراهيم

امتحن القدير إبراهيم، ليستوضح هل كان يحبّ ابنه الشرعي الوحيد أكثر مَن الله ربّه. وكان إبراهيم مستعدّاً أن يضحّي بابن الوعد، ليُبرهن أنه يحبّ الله مِن كلّ القلب، ومِن كلّ النفس، ومن كلّ القوة، وأكثر مِن كلّ شيء في هذه الدنيا.

أصبحت طريق الآب والابن إلى الجبل، حيث كان المذبح، رمزاً لآلام الله الآب، الّذي قدّم ابنه الروحي الوحيد، كفّارة لخطاة العالم. تشير مرارة آلام إبراهيم ومحبّته لله إلى شفقة الله الآب بإبنه الطاهر الوحيد، كما تدلّ على محبّة الله للعالم الشرّير، الّذي أراد إبنه أن يفديه بموته.

وأمّا تواضع اسحق، و وداعته، واستعداده لتحملّ الآلام والموت، فهي تدلّ على يسوع المسيح، الّذي مِن بداية طريقه كمخلّص، تقدّم بدون تأخّر، نحو موته الكفّاري، ليُصالح العُصاة مع أبيه السماوي. لا نستطيع تصوّر مقدار الألم في قلب ابن مريم، القدّوس، والحنون، منذ معموديته عوضاً عنا، إلى ساعة صلبه أخيراً. تُعلن لنا مصارعته مع الموت في جثسيماني، كيف اضطربت نفسه، وامتلأت حُزناً. إنّما أطاع مشيئة أبيه دون قيد أو شرط.

أقسم الله بذاته، لإبراهيم لأجل طاعة إيمانه، واستعداده للتضحية بوحيده، أنّه سيبارك كلّ الشعوب بواحد مِن نسله، وأنّ أتباعه الروحيين سيتضاعفون، ولن يقدر أحدٌ أن يحصيهم، لأنهم سيكونون كرمل البحر، وكنجوم السماء. نقرأ لهذا في كلمة الوحي:

"بذاتي أقسمت، يقول الربّ: أنّي مِن أجل أنّك فعلت هذا الأمر، ولم تمسك ابنك وحيدك، أُباركك مُباركةّ، وأُكثِر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل على شاطئ البحر000 ويتبارك في نَسلك جميع أمم الأرض، مِن أجل أنّك سمعت لقولي" (تكوين22: 16-18).

بعدما أصبحت آلام إبراهيم واسحق رمزاً لآلام الله الآب وآلام ابنه الروحي، سبَّبَ وعد الله لإبراهيم "تحت القَسَم" بركةً فوق البركة في الّذين قدّموا للربّ طاعة الإيمان، والاستعداد للتضحية، بكلّ شيء في حياتِهم.

يؤكّد لنا بولس الرسول في رسالته لأهل غلاطية، أنّ موت المسيح الكفّاري هو ينبوع البركة لكلّ الشعوب. تتبارك الأسباط، والقبائل، واللغات، لأجل آلام المسيح البريء. إنّ عدد الّذين قبلوا خلاص الله وحَمله، وتغيّروا إلى محبّين مضحّيين، أصبح عدداً كبيراً، حتّى لا يستطيع أحد أن يعدّه، كالنجوم في السماء، وكالرمل في البحور (رؤيا7: 9-17).

نقرأ في القرآن عن تضحية إبراهيم لإبنه أن الله أعلنَ له القرار المبين:

 

 قد فديناه بذبح عظيم

(الصافات37: 108)

لم يذكر القرآن ما هو الذبح العظيم، الّذي قد تمّ في الماضي، قبل أن يمنع الله إبراهيم مِن ذبح ابنه الوديع! لذلك لا يكون هذا الذبح حيوانياً، ولا ذبحاً جَماعياً، كما في عيد الأضحى، ولا في الماضي أو الحاضر، إنّما تدلّ هذه الآية القرآنيّة ضمناً على كفّارة المسيح الطاهر، حتّى افتدى إبراهيم واسحق وإسماعيل بِها، وتحرّروا مِن دينونة الله، لأجل هذا الذبيح النائب عنهم. 

حَمَل الفصح

(الخروج12: 1-28)

لم يكنْ العبرانيون في مصر أفضل من الشعب المصري المستقرّ في وادي النيل  منذ زمن بعيد. إنّما وضعوا أنفسهم تحت حماية دَم حمل الفصح المذبوح، الّذي دُهنت عتبة أبواب بيوتهم به. فجاز ملاك الدينونة عنهم، لأجل علامة الدَم، الّتي حفظتهم مِن غضب الله. وتعني كلمة "الفصح": تجاوز غضب الله عن الّذين وضعوا أنفسهم تحت حماية دم الحمل.

وبعد ذبح حَمل الفصح، كان على كلّ عائلة أن تأكل لحم الذبيح المشوي معاً، لكي يعيشوا مِن قوّته، ومِن بركته. وهكذا أصبحوا شركة متّحدة بالحمل المذبوح، الّذي حلّ فيهم.

نجد نظام عيد الفصح في العشاء الربّاني، الّذي قال المسيح فيه: " خُذوا، كُلوا. هذا هو جسدي. وقال أيضا: إِشربوا منها كلّكم، لأنّ هذا هو دمي، الّذي للعهد الجديد، الّذي يُسفك مِن أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" (متّى26: 26-27)

تدلّنا هذه الآيات على أنّ المسيح يُريد أن يعيش معنا، وأن يَحلّ فينا، حتّى نعيش من قوة حمل الله. وحيث يتمركز حمل الفصح في المؤمنين، يكون هو بِرَّنا، وحياتنا الأبدية.

 

ذبيحة العهد

(خروج24: 5-8)

عندما قطع الربّ العهد القديم مع الشعب المتحرّر مِن العبودية عند جبل حوريب في سيناء، أعطاهم  وصاياه في "كتاب العهد"، وقرّر ذبح ثيران "كذبيحة العهد"، لأنّ ليس من إنسان مستحقّ أن يدخل إلى عهد مع الله. "دم العهد" وحده يؤهّل النجسين، أن يعيشوا مع الله في عهده القدّوس. اختار الله لقطع هذا العهد موسى"كوسيط للعهد القديم".

يتضمّن كتاب العهد القديم 613 وصيّة، تتلخص في الآية البارزة:"كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس" (اللاويين11: 44 و19: 2). ونقرأ أيضاً:"الربّ إلهنا ربّ واحد. فتحبّ الربّ إلهك مِن كلّ قلبك ومِن كلّ نفسك ومِن كلّ قوتك"(التثنية6: 4-5). وأيضاً: " تحبّ قريبك كنفسك" (اللاويين 19: 9-18).

استخدم يسوع كلمة ومعنى "دم العهد" الّذي يُسفك مرّة واحدة فقط لقطع العهد القديم، واستخدم هذه الكلمة عند قطعه عهده الجديد. لقد سمّى الخمر في العشاء الربّاني، دمه للعهد الجديد (متّى26: 28، مرقس14: 24). لم يسفك دمه عن الجميع، بل فقط عن "الكثيرين". هذا التحديد يدلّنا على أن مَن يؤمن بإبن الله المذبوح ، تتحقّق قوّة دم العهد فيه. ومَن يدخل إلى العهد الجديد مع الله قصداً، ومؤمناً، وواعياً، هذا الّذي يطهّره دم العهد الجديد، ويقدّسه إلى التمام.

إنّ العهد هو هبة الله الموهوبة منه، مع العِلم أنّ المسيح هو الواهب والوسيط للعهد الجديد. صار ابن الله إنساناً، ليؤسّس عهداً جديداً، لا ضعف فيه، ثابتاً إلى الأبد.

وأمّا مضمون كتاب العهد الجديد، فهو إنجيل المسيح، بوعوده ووصاياه الخمسمائة، الّتي تتلخّص بآية واحدة:"كونوا أنتم كاملين، كما أنّ أباكم الّذي في السماوات هو كامل"(متّى5: 48).

وهناك آية أخرى:"وصيّةً جديدةً أنا أعطيكم: أنْ تحبّوا بعضكم بعضاً. كما أحببتكم أنا تُحبّونَ أنتم أيضاً بعضكم بعضاً" (يوحنا13: 34-35). بِهذه الوصية قدّم يسوع نفسه ككتاب العهد، لأنّه جعل محبّته الخاصّة مقياساً لمحبّتنا نحن.

يتّضح أنّ يسوع هو مؤسّس العهد الجديد، ووسيطه. في الوقت نفسه ذبيح العهد وكتاب العهد بذاته. ومنذ صعوده إلى السماء صار أيضا ضامننا للعهد الجديد عند الله.

 

ذبيحة الكفّارة

(اللاويين4: 1 - 5: 26)

عندما كان كاهن، أو زعيم، أو الأمّة بأجمعها، أو فرد واحد مِن الشعب، يُخطئ سهواً، كان عليه أن يأتي بحيوان للذبح، ويضع يده على رأس الذبيح، كأن تجري خطاياه منه إلى الذبيح. بعدئذ كان مضّطراً، أنْ يذبح نائبه الذبيح بيده أمامَ الله. بعدئذٍ يُصالحه الكاهن مع الربّ بتقديم دَم الذبيح، وحرق الدهن على المذبح. أمّا بقايا الذبيح فَتُحرق خارجا.نستخلص مِن نظام الذبح الكفّاري في العهد القديم مبادئ مهمّة لأجل مصالحة الخاطئ مع الله القدّوس.

1-  منح قتل الذبيح عوضا عن الخاطئ هو نعمة مِن ربّ العهد، ولا يقدر الإنسان أنْ يُكفّر عن سيئاته شخصياً! الربّ وحده يسمح له، بهذه الوسيلة المؤقّتة، أنْ يجد المصالحة مع القدّوس.

2-  ينبغي للخاطئ أن يعرف خطيئته ويعترف بها، ويدرك معناها بواسطة الشريعة الموسويّة، فبدون معرفة الخطيئة وبدون الاعتراف بالخطيئة، لا تتمّ المصالحة مع الله، ولا مغفرة الخطايا.

3-  لا يمكن لذبيحة الكفّارة أن تمحو كلّ الخطايا، إلاّ الّتي حدثت سهواً. كلّ فتنة أو خطيئة مقصودة ضدّ الله ووصاياه، لنْ تُغفر، بل تستوجب قصاص الله ودينونته على الخاطئ.

4-  يجب على الخاطئ أن يشتري حيواناً للذبح، أو أن يفرز واحداً مِن ماشيته، شرط أن يكون بلا عيب. وكلّ ذبيح ناقص، أو عليل، غير مقبول للذبح، يعتبر إهانة لله.

5-  لا يحقّ أن يذبح الذبيح في الخفاء، أو في أي مكان، بل أن يذبح جهراً أمام الله والأمّة. لذلك يتقدّم الخاطئ مع ذبحه، ويجرّه بحبل وراءه إلى الهيكل المعتبر بيت الله، لتتمّ الكفّارة أمام الربّ، لمصالحة الخاطئ معه.

6-  يستلزم وضعُ اليد على رأس الذبيح، رمزاً لنقل الخطيئة مِن الخاطئ إلى ذبيحه. فسِرّ المصالحة هو النيابة، فحيثما يكن الذبيح سليماً، يُعتبر في العهد القديم نائباً، مُستحقاً أنْ ينوب عن خاطئ واحد. عندئذٍ يحمل الذبيح الخطيئة عن صاحبه، وأيضاً القصاص عوضاً عنه.

7-  على الخاطئ أن يذبح نائبه بيده ، لكي يتيقّن مِن أنّ كلّ خطيئة كبيرة كانت أم صغيرة، تستحقّ موت الخاطئ (رومية 5 : 12 و6: 23). وتعني كلّ خطيئة ثورة ضدّ الله، وتجاوزاً لوصاياه. لذلك تكون إبادة الثائر الّذي افتعل الخطيئة عمداً، القصاص الوحيد الممكن. تتمّ الكفّارة فقط للثائر الّذي أخطأ انفعالاً، أو سهواً، حالما يأتي بذبيحه تائباً، نادماً، متأسّفاً.

8-  القصد مِن ذبح الحيوان هو تصفية الخاطئ تماماً بواسطة دمه. لأنّ الإيمان بالعهد القديم يقول: " إنّ في دمه نفسَ الإنسان" (اللاويين 17: 11و14؛ التثنية12 : 23؛ عبرانيين 9: 22). دم الذبيح وحده يصالح الخاطئ مع الله القدّوس. لا يستطيع الإنسان أنْ يُكفّر عن نفسه، بل يحتاج إلى وسيط مقدّس. يستحقّ الكاهن الممسوح وحده، أن يُصالح المذنب مع الله، بواسطة تقديم دَم الذبيح، الّذي رشَّ دمه في العهد القديم، إمّا على الحجاب الفاصل بين القُدس وقُدس الأقداس، أو على قرون مذبح البخور.

9-  كان ينبغي أنْ يحرق الخاطئ بنفسه الدهن والكليتين وأقساماً مهمّة  مِن الذبيح على مذبح المحرقة، لكي يرى بعينيه، كما يحترق ذبيحه في النار، هكذا ينبغي أن أحترق أنا في لهيب جهنم . أمّا الأقسام الغير المهمة مِن الذبح، فتُنقل إلى الخارج وتحرق في وادي هنّوم.

مَن يُقارِنْ تفاصيلَ نظام "ذبائح الإثم" في العهد القديم،  بموت يسوع الكفّاري، يَجِدْ لكلّ فقرة مِن الفقرات السابقة، تشابُهاً جوهرياً نوجزه فيما يلي:

عيّن الله بنفسه الذبيح يسوع الطاهر الكامل، ليموت عوضاً عن الخطاة، الّذين عرفوا خطاياهم، واعترفوا بها، كنائبنا، الّذي انتقلت إليه كلّ آثامنا، واحتمل كلّ قصاصنا، وجُلد في القدس أمام هيكل الله، وصُلب خارج المدينة، وسالت دماؤه مِن جراحه المتعدّدة. توّسط لأجلنا، طالباً مِن الله غفران خطايانا، ومات في العزلة حيث "احترق" في غضب الله عوضا عنّا...... نسجد له، ونحبّه، لأجل نيّابته عنّا!

كان الرسول بولس يلخّص هذه التفاصيل المذكورة بجملة فريدة، فكتب: " إنّ الله، جعل الّذي لم يعرف خطيئةً خطيئةً لأجلنا، لنصير نحن بِرّ الله فيه" (كورنثوس الثانية 5: 21 ). تتضمّن كلمة " خطيئة " في هذه الاية تلخيصاً شرعياً، للعبارة " ذبيحة الخطيئة " فيتّضح أنّ المسيح، الخالي مِن الخطيئة، أصبح ذبيحة الاثم لجميع التائبين المؤمنين به. لذلك يحسبهم الله أبراراً بنعمته. لم يصدر هذا البِرّ مِن تلقاء أنفسهم، ولا يستمرّ فيهم مستقلّين، بل يتحقّق بارتباطهم الدائم بيسوع ذبيحهم ونائبهم. لأجل موته النيابي وحده، نثبت متبرّرين بالارتباط  به.

تنكر بعض الأديان بشدة إمكانية النيّابة في دينونة الله بواسطة إنسان أو حيوان. والآية المختصة بهذا الرأي ترد خمس مرّات في القرآن: " لا تَزر الوازرة وِزر أخرى " (الأنعام 6: 164؛ الإسراء 17: 15؛ الفاتر 35 : 18؛ الزمر 39 : 7؛ النجم 53 : 38). يدّعي القرآن بهذه الآيات أنّه لا يحق للنائب أن يحمل أثقال الآخرين وخاصّة في يوم الدين.

تصحّ هذه الآية إلى مدى بعيد، لأنّه لا يحقّ لإنسان خاطئ، أنْ يكفّر عن خطايا الآخرين، فكلّ مَن يجد وِزراً في نفسه، لا يستطيع أن يقف أمام الله، في سبيل الكفّارة عن الآخرين. فمَن يستغفر ربه، لا يستطيع أنْ ينوب عن الخطاة الآخرين.

لكنّ القُرآن يشهد في الوقت نفسه بأنّ المسيح وُلد مِن دون خطيئة (آل عمران 3 : 36؛ مريم19: 19). كما أنّه كان كلمة الله المتجسّد وروحاً منه (آل عمران 3: 45؛ النساء 4: 171). لذلك كان يسوع معصوماً مِن الخطيئة، واستحقّ وحده أن يشفَع عند الله لأتباعه، ويكفّر عنهم!

طلب يسوع حسب القُرآن مِن ربّه مائدة مِن السماء، ليشبع بها تلاميذه الجائعين، فاستجاب الله صلاته فوراً (المائدة 5 : 114-115). مارسَ المسيح بواسطة هذه الطلبة قُدرته كوسيط بين الله والنّاس جليّاً.

أقام المسيح الأموات بإذن الله (آل عمران 3: 49؛ المائدة 5 : 110) وكان له ميثاق غليظ غير محدود مع القدير (الأحزاب 33: 7). ليس هو مِيْتاً كسائر الأنبياء، بل ارتفع إلى القدّوس (آل عمران 3: 55؛ النساء 4 : 158). إنّه حيّ مع الله، ويتكلّم معه، ويحقّق كفّارته أمامه (المائدة 5: 116-118). 

عندما مات ابن مريم، لم يمت بسبب خطاياه الشخصية، بل لأنّه حمل ورفع خطايا العالم كلّه، ومات ذبيحاً لأجلنا:"سلام عليّ يوم وُلدت، ويوم أموت، ويوم أُبعث حيا"(مريم 19: 33). لا يرفض القرآن في هذه الآية نيابة المسيح عنا، بل يثبتها ضمناً.

تضيف الرسالة إلى العبرانيين، بأنَّ الذبائح في العهد القديم كانت ناقصة، ومؤقّتة، وضعيفة. فوجدت في موت المسيح الكفّاري اكتمالها (عبرانيين10: 1-14). لم يكن المسيح حَملَ الفصح وذبيحة العهد وذبيحة الإثم فقط، بل هو أيضا رئيس الكهنة، الّذي قدّم نفسه ذبيحةً عوضاً عنّا، وهو في الوقت نفسه هيكل الله، المكان الوحيد الّذي تتمّ فيه المصالحة، لأنّ فيه حلّ كلّ ملء اللاهوت جسدياً. فهو الهيكل، ورئيس الكهنة، والذبيح، في آن واحد (عبرانيين 9: 22).  لذلك نسجد له، ونشكر بواسطته الآب السماوي، لأنّ "الله كان في المسيح، وصالح العالم بنفسه" (كورنثوس الثانية 5: 18-21).

 يوم الكفّارة العظيم

(اللاويين16: 1-34)

 ما كانت جميع الخطايا في شعب العهد القديم يكفّر عنها، بواسطة ذبائح الإثم. تراكمت خطايا مستترّة، وغير مُدركة عند الكبار والصغار مع الوقت، وحتّى الكهنة تنجّسوا سهواً، وكذلك المعبد بمذابحه وأوانيه، وحتّى قدس الأقداس احتاج كلّ سنة إلى تقديس شامل وكامل، ومُصالحة مع الله ( اللاويين 16 : 33-34).

عُيّن لتلك الكفّارة الشاملة اليوم العاشر مِن الشهر السابع، مع صوم 24 ساعة، كيوم ندامة، وتوبة للأمّة، ومُصالحة مع الله. ويمنع القيام بأي عمل في هذا السبت المقدّس. لأن فيه يتطهر الشعب كلّه، والمعبد مِن جميع خطاياهم وأخطائهم. ويتصالحون مجدّداً مع الله (اللاويين 16: 29-36).

أوّلاً كان على رئيس الكهنة أنْ يَذبح لنفسه ثوراً، كذبيحة الإثم، ويقدّم دمه مرة واحدة في كلّ سنة إلى قدس الأقداس. كان عليه في الوقت نفسه أن يغطي تابوت العهد بكروبيّيه المذّهبين بغيمة مِن البخور المحترق، لأنْ لا أحد يقدر أنْ يتقدّم مِن الله بدون تغطية أو حماية. كان على رئيس الكهنة أنْ يرشّ قليلا مِن دم الثور المذبوح بإصبعه على الغطاء الذهبي لتابوت العهد، ويرش بإصبعه مِن بقايا الدمّ سبع مرّات على الأرض أمام تابوت العهد.

بِهذه الطريقة يكون قد صالح نفسه، وعائلته،وكلّ الكهنة، واللاويين مع الله القدوس، ليستحقّوا أن يستمرّوا في خدماتِهم الكهنوتية. وقد مات اثنان مِن أبناء هارون سابقاً، لأنّهما دخلا قدس الأقداس بلا مبالاة، وبدون الوقار وخوف الله، ليخدما العلّي بقدرتهما الخاصّة (اللاويين 16: 1-2؛ 6، 11-14).

بعد أن تتم المصالحة بين الله وكلّ أعضاء الكهنوت كان على رئيس الكهنة أنْ يُصالح المعبد وكل أوانيه، بواسطة ذبح تيس المصالحة. وكان على رئيس الكهنة أنْ يتصرّف بالطريقة نفسها الّتي اتّبعها مع الثور المذبوح. كان الدم مِن تيس المصالحة يكفرّ أيضاً عن الشعب كلّه، لأنّ الرب سكن في وسط هذه الأمة (الخروج 25: 8؛ 29: 45؛ اللاويين 26: 12؛2 كورنثوس 6: 16). ولاختيار تيس المصالحة يُؤتى بتيسين بلا دنس، في هذا اليوم الكفّاري، ويتمّ بالقرعة اختيار تيس للمصالحة مع الله، وأمّا الّتيس الأخر فكان لزاما عليه أن يحمل خطيئة الشعب إلى البرية، ليرجع الشرّ إلى الشرّير.

ذِكر تيس الخطيئة، في يوم الكفارة العظيم، كان لِوضع ثقل خطايا الشعب كلّه على نائبه. كان على رئيس الكهنة أنْ يضع يديه على رأس الّتيس، ويعترف بجميع خطايا إسرائيل، وتجاوزاتهم، وينقلها بهذه الطريقة لتدخل تيس الخطيئة. وكان هناك رجلٌ مكلّف، أنْ يقود هذا الّتيس المشحون بآثام الأمّة إلى البريّة، لكي تَرجِعَ الشرور كلّها إلى عزازيل، ربّ الخطيئة ومصدر الشرور (لاويين 16،  8 و10).

تغيّر تقديس الكهنة ومصالحة المعبد تغيراً جذرياً، عندما اختفى تابوت العهد كعرش الله قبيل أو أثناء هدم الهيكل الأول 587 قبل المسيح. ففي الهيكل الثاني وفي هيكل سليمان ظلّ قدس الأقداس فارغاً. لم يَبْقَ في هذه الغرفة شَيٌء إلا جرن تُوضع عليه مقلاة لحرق البخور. يدخل رئيس الكهنة مرّة واحدة في السنة هذه الغرفة المظلمة الدامسة، الممتلئة بالعدم، ليصالح الشعب مع الله القدّوس.

أمّا يوم الكفّارة العظيم في العهد الجديد فهو يوم الجمعة الحزينة حيث صالح المسيح العالم كلّه بالله.

تُناقش الرسالة إلى العبرانيين أنظمة الكهنة والذبائح في العهد القديم، ونبرز بعض النقاط الجوهرية في هذه النبذة:

إعادة اليوم الكفّاري العظيم سنوياً في العهد القديم تدلّ على عدم الديمومة والضعف في العهد القديم، فالمسيح قدّم نفسه مرّة واحدة وصالحنا بموته الكفاري إلى الأبد مع الله (عبرانيين 7: 22).

إنّه مِن المستحيل أن يمحو دم الّتيوس والثيران خطايا البشر. أمّا المسيح الطاهر فبذّل نفسه كأفضل ذبيحة لأجلنا، هو قدّوس، وتبقى ذبيحته قدّوسة أيضاً، وسارية المفعول إلى الأبد (عبرانيين 4: 15؛ 7: 28).

دخل يسوع السماوات، وجلس مع أبيه في عرشه, وقدّم دم ذبيحته لله القدّوس شخصياً. وهو ينوب عنّا كرئيس الكهنة (عبرانيين 9: 23-26؛ 10: 11-14)، وبقربان واحد، قد أكمل إلى الأبد، كلّ المقدّسين. جميع المؤمنين بالمسيح يعيشون مِن قوة ذبيحته، وبأمانة وسيطنا عند الله.

لقد انشقّ الحجاب أمام قدس الأقدس يوم موت يسوع فأصبح الباب للسماء مفتوحاً لنا على مصراعيه. فلكلّ مُؤمن بالمسيح امتياز عظيم، أن يتقدّم إلى الآب على أساس ذبيحة المسيح. وما سمح لرئيس الكهنة أنْ يقوم به لمرّة واحدة في السنة، أصبح لأتباع المسيح مسموحاً به كلّ ساعة باسم دم يسوع المسيح.

لم نتطهر بذبيحة المسيح الفريدة فحسب بل هو يدعونا كهنة ملوكيين لنتوسط بصلواتنا أمام الله القدّوس، لأجل الناس الآخرين. جعلنا خدّامه في المقدّس أكثر مِن الكهنوت في العهد القديم (سفر الخروج 19: 6، بطرس الأولى 2: 9 ورؤيا يوحنا 5: 10).

الحيّة النحاسية

تتكلّم كتب موسى عن قرابين متعدّدة، وذبائح للحرق، وتقدمات طعام وشراب، وقرابين شكر، ذبائح يوميّة، ذبائح الإثم. أمّا يسوع المولود مِن الرّوح فلخّص هذه الذبائح والأنظمة والقرابين في حياته وموته، وأكملها بذاته. ولذلك يحقّ له أنْ يتكلّم بالآية الفاصلة مِن سفر هوشع: "إنّي أريد رحمة، لا ذبيحة، لأنّي لم آتِ لأدعو أبراراً، بل خطاة إلى التوبة " (متّى 9: 13).

فبالنسبة لهذه الآية الناقدة لأنظمة العهد القديم، وافق يسوع على الكفّارة عن الخطايا وعلى التطهير للضمائر، لكنه أبرز الهدف والغاية مِن الذبائح، وطلب تغْيِير التائبين إلى رحماء، بواسطة بركة الذبائح وقوتها، فبدون الرحمة لا تنفع الذبائح، بل الذبائح تقودنا إلى الرحمة.

لم يستخدم يسوع في إنجيله كثيراً مِن التوضيحات لموته الكفّاري، ولم يُبرز غايته من الأنظمة مِن شريعة موسى للذبائح، بل ذكرّ نقوديموس النائب في أمّته، بأنَّ الله أرسل حيّات محرقة لشعبه المتمرّد في البرية قصاصاً لعنادهم (العدد21: 4-9) لكن كلّ مَن كان ينظر إلى الحيّة النُحاسية، الّتي رفعها موسى بأمر الله على قضيب، لم يَمت حتّى ولو لدغته.

اختار المسيح مَثل الحيّة النحاسيّة رمز الشرّ والموت كأهمّ دليل على موته الكفاري، كما نقرأ: " وكما رفع موسى الحيّة في البّرية، هكذا ينبغي، أنْ يُرفع إبن الإنسان " (يوحنا 3: 14-15). كيف تمكّن يسوع أنْ يُقارن نفسه بالحيّة النحاسيّة؟ هل أصبح خُلاصة كلّ شر؟ كلاّ، لا يمكن. كان يسوع قدّوساً، وثبت طاهراً، ولم يوافق على كذب وحيلة إبليس (متّى 4: 1-11؛ 16: 23). لكنه اجتذب خطايا كلّ الناس إلى قلبه الحنون، وجعله الله خطيّئة عوضاً عنا (2 كورنثوس 5: 21). فبدا لنا كأنّه الحيّة الملعونة (تكوين 3: 14)، إنما ثبت بلا خطيئة في محبّته العظمى وحقّه الصّريح.

كلّنا نُشبه الّذين لدغتهم الحيّة مِن جهنم، ووافقنا على الكذب والبغضاء والكبرياء، والأنانية والرياء والنّجاسة، وألف خطيئة أخرى يعرفها البعض أو لا يعرفها البعض الأخر. نحمل كلّنا السّم الزعاف مِن تذمّرنا على الله في قلوبنا، ولا بدّ أنْ نموت ولقد سمّى يسوعُ الشيطانَ " قتّالاً للناس منذ البدء" (يوحنا 8: 44) الّذي يضلّ الجماهير بأكاذيبه البرّاقة، ويحصدهم بعدئذ بواسطة عبده الموت.

لكنّ يسوع أعلن:"مَن ينظر إليَّ أنا المرفوع على خشبة العار، ويتّحد معي في الإيمان، فإلى هذا تجري حياتي الأبديّة" الّتي هي الرّوح القدس ومحبّة الله، فموت المسيح الكفّاري لا يريد أن يطهّرنا أو يبرّرنا فحسب، بل يقصد أن يغيّرنا ويقدّسنا ويجدّدنا. بدون موت المسيح الكفّاري، لا يحلّ الرّوح القدس فينا. فحياته الروحية هي البركة لموته الكفّاري، لكلّ الّذين يَنظرون إليه، ويثقون به.

وضّح يسوع لنا برمز الحيّة النحاسية تطهيرنا الكامل، وتبريرنا الشامل، مِن كلّ خطايانا. وكشف بالوقت نفسه السبب الشيطاني، لفسادنا ولموتنا المرير، وقدّم لنا فداءه لندخل إلى حرّية أولاد الله. فلذبيحة المسيح الكفّارية أهداف مختلفة، غفران خطايانا،  واستلام  موعد  الآب،  حتّى  تحلّ  فينا  حياته الأبديّة، ونعيش معه إلى الأبد ( يوحنا 14: 16-17). وكلّ مَن يسمع هذه البشارة، ويؤمن بها، يعش إلى الأبد، لتمجيد موت المسيح الكفّاري.

نبوءة النبي داود عن آلام المسيح

مَن يقرأ المزمور 22 يجد فيه نُبوّة مفصّلة توضح آلام المسيح وكفّارته. كتب النبي داوود هذه الآيات قبل ألف سنة مِن مجيء المسيح، فأقواله المستقبليّة، وتطبيقها بدقّة ترينا الضرورة السِرّية لخطط خلاص الله والإضطرار لموت المسيح الكفّاري، فلا بُدّ منه! قرّر العليم منذ الأبد، أنّ مسيحه يدخل العالم، ويفديه بموته الفدائي مِن الغضب والدينونة.

نجد في هذا المزمور أكثر مِن عشرة دلائل على موت المسيح المُرّ، أثناء صلبه على الصليب. فكلّ مَن يرد يجد في هذه المقارنة واتمام النبوّة عن صراع يسوع مع موته عوناً لمعرفة كفّارة المسيح:

مزمور 22

متّى 27

مرقس 15

لوقا 23

يوحنا 19

العدد 6: أما أنا فدودة لا إنسان. عار عند البشر ومحتقر الشعب.

41-44

29

36-37

-

العدد 7 أ: كلّ الّذين يرونني يستهزئون بي.

41-44

29

36-37

-

العدد 7 ب: يفغرون الشفاه وينغضون الرأس.

39

29

-

-

العدد 8: اتّكل على الرب فلينجّه. لينقذه، لأنّه سُرَّ به.

43

-

-

-

العدد 11:  لأنّه لا معين

42

30-31

37

-

العدد 15: ولصق لساني بحنكي.

-

-

-

28

العدد 16 أ:جماعة مِن الأشراراكتنفتني.

41-43

31-32

-

-

العدد 16 ب: ثقبوا يديّ ورجليّ.

-

24

33

19: 18 و 20:20

العدد 17: ويتفرّسون فيّ.

-

-

35

19: 20- 25

العدد 18 أ : يقسمون ثيابي بينهم.

35

24

34

23

العدد 18 ب: على لباسي يقترعون.

35

24

-

24

العدد1: إلهي! إلهي! لماذا تركتني؟

46

31

-

-

يُعتقد أنّ يسوع عرف هذا المزمور غيباً، وصلّى آياته أثناء مصارعته مع الموت، فنُدرك في هذه الكلمات مدى الآلام الباطنيّة والنفسيّة في نائبنا، أثناء كفّارته عوضاً عنا.

كمْ تألّمت نفس يسوع المحبّة الحسّاسة؟ عندما لم يدركه شعبه، بل استهزأوا به جهراً، وجدّفوا عليه، ويعني الاستهزاء بعض المرات آلاماً أشدّ مِن الموت نفسه.

كيف تألّم جسد المسيح في عاصفة الأوجاع، وتمزّق تقريباً مِن ثقل جسده؟ وهو معلّق على الصليب، ولكن لم يتذمّر حتّى ولو بكلمة واحدة.

كم تألّمت روحه؟ عندما تركه الله مِن أجل إدانة خطايانا. لا نقدر أن نستقصي مدى عمق صرخته: إلهي إلهي  لماذا تركتني؟ (مزمور22 ،1).

يرى بعض المفسّرين أنّه مستحيل بأنّ الله ترك مسيحه الحبيب. أمّا يسوع فلمْ يكذب بل صلّى: " قد تركتَني". فيردّ المنطق، لو الله تركه، فهذا يَدلُ على أنّ يسوع قد أخطأ. أمّا الكتاب المقدّس فيجيب: طبعاً، البريء رفع خطايانا على كتفيه، فخطيئة العالم ضغطت على ذبيحنا، وجُعل عنا خطيئة، ولأجل خطايانا نحن تركه الله!

يحاول الآخرون أن يجدوا حلاً وسطاً، فيقولون: لقد حجب الآب السماوي وجهه عن ابنه المولود مِن الرّوح، وظهر له دياناً لأجل خطايانا.

أمّا يسوع فشهد: " قد تركتني حقاً ". إنّما صرخ قبل هذه الشهادة شاهداً ومصلياً: "إلهي، إلهي"! كما صارع يعقوب الله على نهر يبوّق، هكذا وفي درجة رُوحية عالية ، صارع يسوع الله.لم يكنْ يعقوب يسمح للربّ، بأن يتركه مع العِلم أنّ ابن اسحق كان أثيماً جداً. لكنه صرخ:"لا أطلقك، إن لم تباركني". فبإيمانه غلب يعقوب الدّيان، ونال البركة  (التكوين 32: 26).

وهكذا بالمعنى الروحي الأعلى، لم يسمح يسوع لإلهه الآب الديّان، أنْ يتركه فتمسّك به، رغم أنّ الله قد تركه. ولم يسمح أنْ يفارقه بالإيمان، ودعاه:"إلهي! أنت تبقى إلهي، حتّى ولو لم أرك بعد، ولا أطلقك إن لم تخلّصهم!".

إنّ الإيمان في الابن بمحبّة أبيه السماوي وأمانته، قد تغلّب على الله الديان. هذه هي الغلبة الّتي تغلب العالم، وتغلب حتّى الله الديان، ألا وهي إيماننا (يوحنا الأولى5: 4). لأجل إيمان يسوع خلّصنا (يوحنا16: 33)

تلقّى يعقوب بعد مصارعته الإيمانية مع الله القدير اسماً جديداً. وهو"إسرائيل". ويعني هذا الاسم:"قد تصارع مع الله ونجح". وهذا الاسم يُلهمنا، بأنّ يسوع هو الفائز. هو الوحيد الّذي يستحقّ اسم "إسرائيل". لقد تصارع مع الله، لأجل خلاص البشرية الخاطِئة ونجح لأجل إيمانه. تمسّك بالله، في يأس البعد عنه، وصلّى مؤمناً في اللحظة الأخيرة مِن حياته:"يا أبتاه في يديك استودع روحي"(لوقا 23: 46) رغم أنّه لم يَرَ أباه فيما بعد وهو على الصليب.

مَن يدرس هذه النبوّات، وإتمامها في العهد الجديد، يستطيع الإدراك بأنَّ العهد القديم  يحمل الجديد في ذاته.

 

عبد الله المتألمّ

إنّ أهمّ شهادة عن موت يسوع الكفّاري، في العهد القديم، قد أُعلِنَت لأشعياء نبي الفداء (أشعياء53: 1-12) والآيات الأربع التالية هي لبّ الإصحاح كلّه. نقترح على قرائنا المحترمين، أن يحفظوا هذه الآيات غيباً، فينالوا قوّة عظيمة لأنفسهم، وتعزية أبدية، وبصيرة مُعينة على إدراك كفّارة المسيح. والآيات الأربع:

 

لكنّ أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمّلَها.

ونحن حسبناه مُصاباً مضروباً مِن الله، ومذلولاً.

وهو مجروح لأجل معاصينا. مسحوق لأجل آثامنا.

تأديب سلامنا عليه، وبُحُبره شفينا.

كُلّنا كغنم ضلّلنا. مِلنا كلّ واحد إلى طريقه،

والربّ وضع عليه إثم جميعنا

 (أشعياء53: 4-7).

حين قرأ شاب طالب في الدار البيضاء هذه الآيات، أمام رفاقه بوقار، سُئل عن رأيه بهذا الرجل المذكور. فأجاب بعد قليل من التفكير:" لو كانت هذه القصّة حقيقة، لكان لهذا الرجل محبّة عظيمة!" إنّ هذه القصّة حقيقيّة! وحدثت حرفياً! وأدرك هذا الشاب لتوّه في الدار البيضاء جوهر الإنجيل.

يتكلم أشعياء في الإصحاح 53 عن عبد الربّ، الّذي تألّم كتائب عن شعبه الفاسد، ومات في دينونة الله عنه. لخّص يسوع هذه الكلمات في شهادته:                  

ابن الإنسان

لم يأت ليُخدَم، بل ليَخدِم،

وليَبذل نفسه فدية عن الكثيرين. 

(متّى20: 28)

 وأثبت بولس هذه الحقيقة مع العبارة "عبد" عن يسوع، في شعاره  كقانون الإيمان في رسالته إلى أهل فيلبي (2: 7) حيث قال: " لكنّه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبدٍ، صائراً في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه، وأطاع حتّى الموت، موت الصليب ".

ماذا يُعلّمنا أشعياء

مِن الإصحاح 53؟

إنّ يسوع الّذي اتّضع، وتنازل عن حقوقه، حاملاً أسقامنا وآثامنا وخطايانا وضلالنا وأنانيتنا، واحتمل عوّضاً عنّا قصاصنا في دينونة الله. قد وضع الربّ نفسُهُ عليه إِثمَ جميعِنا. ضُرِب المسيح لأجلنا في دينونة الله، واحتمل العذاب الأحمر والجراح، وأخيراً أماتوه معلّقاً بثقل جسده.

أما نحن، فنِلْنا لأجل نيابته السلام مع الله، وشفاء حُبُرنا. قد تَمّت كفّارته، وهو ضامن خلاصنا، مانح لنا اليقين بتحريرنا وفدائنا، وسيكون كحمل الله المعذّب، أنسال روحية كثيرة كعدد رمال الشواطئ ونجوم السماء. وتتحقّق لأجله خطط خلاص الله، حتّى في أيامنا وهو مخلّص لكثيرين وحتّى الأقوياء يجثون أمامه معترفين:

 

هوذا، حمل الله، (الرافع خطيّئة العالم) (يوحنا 1: 29)

كلّ الشهادات والأنظمة والنبوات السابقة يُلخّصها نداء يوحنا المعمدان على ضفة نهر الأردن:" هوذا، حمل الله، الّذي يرفع خطيئة العالم".

كيف حصل يوحنا على هذه المعرفة المثيرة؟ أعلن له الله في البرية وحياً خاصّاً وقال له:"الّذي ترى الروح نازلاً ومستقرّاً عليه، فهذا هو الّذي يعمّد بالرّوح القدس" (يوحنا 1: 33).

حينئذٍ جاء يسوع مِن الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه. ولكنّ يوحنا منعه قائلاً:"أنا محتاجٌ أن أعتمد منك، وأنت تأتي إليّ!‍" فقال يسوع له:" اسمح الآن، لأنّه هكذا يليق بنا أنْ نكمّل كلّ بِرّ. حينئذٍ سمح له. فلمّا اعتمد يسوع، صعد للوقت مِن الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلاً مثل حمامةٍ وآتياً عليه"(متّى3: 13- 16).

عندئذ أدرك يوحنا المعمدان، أنّ ابن مريم البريء، لم يعتمد لأجل خطاياه الخاصّة، بل لرفع خطايا العالم على كتفيه، واعتمد مِن أجلنا. وأدرك المعمدان في الوقت نفسه ، أنّ المسيح لم يأتِ برفش ليُنقّي بيدره، ويفصل الحَب عن التبن، ولم يأتِ بالفأس المرتفع ليقطع الأشجار الّتي لا ثمر فيها، كلا، إنه استعدَّ،أن يحمل دينوناتنا عنّا.

لذلك انفتحت السماوات، ونزل روح الله بهيئة حمامة بيضاء، واستقرّت عليه. قوّاه الله بروحه القدّوس، لأنّه قبل دعوته كنائب البشرية في دينونة الله، واستعدّ أن يكفّر عن ظلماتِهم، وفي الوقت نفسه فوضّ إليه الله أن يعمّد بالرّوح القدس الّذين يتوبون عن خطاياهم، ويضعون أنفسهم تحت كفّارته.

تبلبلت أفكار يوحنّا المعمدان. كان يبشّر بالعكس مِن ذلك، أنّ المسيح يأتي للدينونة، ويُدين العالم الفاسد. أمّا الآن فرأى أنّ المولود مِن روح الله، لم يُدِنْ الخطاة، بل قاصص نفسه عوضاً عنهم. عندئذ أدرك يوحنّا المعمدان بسرعة البرق أنّ هذا هو المسيح الموعود، النائب عن الكلّ في دينونة الله، فتمتم مؤمناً:"هوذا حمل الله، الرافع خطيئة العالم".

كلّ مَن يثق بحمل الله حقّاً، يمسحه بروحه القدّوس، الّذي هو الحياة الأبديّة في البِرّ والمحبّة. وموهبة الرّوح القدس هي ثمرة كفّارة يسوع المسيح، المعدّة لِمَن يثق فيه ويتّحد به ويشكره. آمين

امتحن معرفتك في كلمة الله!

أيّها القارئ العزيز: إن تعمّقت في هذه التأملات تستطع أن تجيب عن الأسئلة التالية بسهولة:

1 -  كيف تتعلّق إِقامة لعازر مِن الاموات بحكم الموت على يسوع؟

2 -  لماذا بكى يسوع عندما دخل القدس وسط الجمهور المبتهج؟

3 -  ماذا انتظر الجمهور الهاتف مِن المسيح الراكب على حمار؟

4 -  ماذا تعني نبوّة يسوع عن مستقبل اروشليم؟

5 -  كم دليل على موت المسيح الكفاري نجده في أسفار العهد القديم؟ اذكر عناوينها!

6 -  ما هو معنى كلمة "الفصح" في العهد القديم و ما معناها في العهد الجديد؟

7 -  ماذا تلهمنا ذبيحة الكفارة؟

8 -  بأي معنى استخدم يسوع مَثَل الحيّة النحاسية لتوضيح موته الكفاري؟

9 -  كم عبارة تدل في المزمور 22 على حقيقة موت يسوع؟

10- لماذا توضح النبوّة في اشعيا 53 بأَوضح بيان معنى و هَدفَ موت يسوع؟

أرسل أجوبتك إلى عنواننا نرسل لك مجلّة أخرى مجانّاً. لا تنسَ عنوانك الكامل على ورقة أجوبتك.

الحياة الفضلى - ص. ب. 226- مزرعة يشوع - المتن - لبنان

family@hayatfudla.org